تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

المفردات :

يسارعون في الكفر : يجدون فيه .

ومن الذين هادوا : أي : من اليهود .

يحرفون الكلم من بعد مواضعه : يسيئون تأويله .

فتنته : إخلاله لسوء اختياره .

خزي : هوان ومذلة .

التفسير :

41- يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ . . .

وردت عدة أسباب لنزول هذه الآية نجدها في تفسير ابن كثير والقرطبي وغيرهما .

قيل : إنها نزلت في المنافقين .

وقيل : إنها نزلت في ابن صوريا ؛ آمن ثم كفر .

وأرجح الأقوال أنها نزلت في اليهود عندما حرفوا حكم التوراة ، وكانت التوراة تنص على أن عقوبة الزاني المحصن هو الرجم بالحجارة حتى يموت ، فلما كثر الزنى في أشراف اليهود ؛ بدلوا حكم الرجم إلى الجلد وتسويد الوجه .

ثم تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن رجل وامرأة قد زنيا من اليهود ، ورغبوا أن يحكم بغير الرجم . فسألهم عن حكم الله في التوراة فقالوا : الجلد فناشدهم الله أن ينطقوا بالحق ، فقالوا : إنه الرجم ؛ فقال صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه " .

ثم أمر أن يرجم الزانيان فرجما .

وقد ورد هذا المعنى في صحيح البخاري ومسلم {[238]}

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ . . . أراد الله سبحانه وتعالى أن يسلي رسوله الكريم ويواسيه ؛ حتى لا يحزن بما يفعله المنافقون واليهود وغيرهم .

فناداه الله تعالى بوصف الرسالة ؛ تشريفا له وتكريما ، وحثه على السلوى والصبر وعدم الحزن من هؤلاء المعاندين . .

" والنهي عن الحزن وهو أمر نفسي لا اختيار للإنسان فيه ، والمراد به هنا : النهي عن لوازمه كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب ، وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام وتعز السلوى " {[239]} .

يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر . ِ أي : يذهبون إليه بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفك ، ر فهم ينتقلون بحركات سريعة في ثنايا الكفر ومداخله ، دون أن يزعهم وازع من خلق أو دين .

قال أبو سعود : والمسارعة في الشيء : الوقوع فيه بسرعة ورغبة . وإيثار كلمة في . على كلمة ( إلى ) للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه ، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها ، كإظهار موالاة المشركين ، وإبراز آثار الكثير للإسلام ونحو ذلك .

مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ . وهم المنافقون ، وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ . يعني : اليهود أي : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ . هذا الوصف يعود إلى الفريقين ، أو إلى اليهود خاصة ، أي : الذين يسارعون في الكفر هم سماعون للكذب أي : كثيرو السماع للكذب من أحبارهم ورؤسائهم ، واللام في قوله : للكذب للتقوية أي : أنهم يسمعون الكذب كثيرا سماع قبول وتلذذ ، ويأخذونه ممن يقوله- من أعداء الإسلام- على انه حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها .

سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ . أي : لم يحضروا مجلسك ، وهم طائفة من اليهود ، كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ تكبرا وتمردا ، ولكن يوجهون إليه بعض أتباعهم ؛ ليحضروا مجلسه وينقلوا إليهم كلامه .

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ . من جملة صفات القوم المذكورين ، أي : أنهم يميلون بالتوراة ويحرفون الكلام الوارد فيها ويؤولونه على غير تأويله من حيث لفظه أو من حيث معناه ، ولعل المراد : أنهم حرفوا التوراة ومما حرفوه : الرجم على الزاني والزانية ، جعلوا بدله تسويد الوجه .

يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ . . . أي : يقولون لأتباعهم السماعين لهم : إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ . أي : إن أفتاكم محمد بما تريدون- وهو الجلد- فخذوه واعلموا بموجبه .

جاء في زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي :

" وذلك أن رجلا وامرأة من أشراف اليهود زنيا ، فكرهت اليهود رجمهما ، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألونه عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا ، وقالوا : إن أفتاكم بالجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فلا تعلموا به " {[240]} .

إِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ . أي : وإن أفتاكم محمد بغير ما أفتيناكم به فاحذروه قبول حكمه ، وإياكم أن تستجيبوا له أو تميلوا إلى ما قاله لكم .

وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا . ومن يقض الله بكفره وضلالته ؛ فلن تستطيع- أيها الرسول الكريم- دفعه عن الضلالة ؛ لأنك لا تملك له من الله شيئا في دفع الفتنة عنه .

فقد اقتضت حكمته أنه يمنح هدايته وتوفيقه وعونه ، لمن سار في طريق الهدى وآثر الحق ورغب في السير على الطريق القويم ؛ أما من أعرض عن الهدى وتنكب الجادة ، فإن الله تعالى هداه وتوفيقه عنه ويتركه مفتونا متنكبا طريق الجادة .

قال تعالى : وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . ( طه : 124-126 ) .

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ . أي : هؤلاء المذكورين- من المنافقين واليهود- هم الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من دنس الكفر والضلالة ، بطهارة الإيمان والإسلام ؛ لأنهم منهكون في الضلالة مصرون عليها ، معرضون عن طريق الهداية والرشاد .

لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ . أما خزي المنافقين : فبهتك سترهم ، وإطلاع النبي على كفرهم ، وخزي اليهود : بفضيحتهم في إظهار كذبهم ؛ إذ كتموا الرجم ، وبأخذ الجزية منهم .

قال مقاتل : وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم ، وخزي النضير بإجلائهم ، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ؛ بدخولهم النار ، والخلود فيها .


[238]:اللهم إني أول من أحيا أمرك: رواه مسلم في الحدود ح 1700 وأبو داود في الحدود ح 4448 ،وابن ماجه في الحدود ح 2558 ،وأحمد ح 18054 من حديث البراء.
[239]:تفسير سورة المائدة د. محمد سيد طنطاوي ص 201.
[240]:زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 2/358.