تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

وقوله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } الآية ، يحتمل وجوها :

أحدهما : ألا يحزنك كفر من كفر منهم ، ليس على النهي عن ذلك ، ولكن ألا يحمل على نفسه بكفرهم ما يمنعه عن القيام بأمره كقوله تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] كقوله تعالى : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] ونحو ذلك من الآيات مما يشتد به الحزن بكفرهم لشدة رغبته في إسلامهم .

ويحتمل قوله تعالى : { يسارعون في الكفر } أي لا يحزنك تمرد هؤلاء وتكذيبهم إياك فإن الله ناصرك ومظفرك عليهم .

ويحتمل { لا يحزنك } صنع هؤلاء الكفرة وسوء عملهم فإنك لا تؤاخذ بصنيعهم كقوله تعالى : { فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } [ النور : 54 ] وكقوله تعالى : { لا يضركم من ضل إذا اهتيدتم } [ المائدة : 105 ] .

وفي قوله تعالى : { يأيها الرسول } دلالة تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء والرسل لأنه تعالى في جميع ما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يا أيها الرسول } و { يأيها النبي } ولم يخاطبه باسمه ، وسائر الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، إنما خاطبهم بأسمائهم : { يا موسى } و{ يا إبراهيم } و{ يا نوح } وجميع من خاطب منهم ، أو ذكر إنما خاطبهم بأسمائهم .

وقوله تعالى : { من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } قال : { قالوا آمنا بأفواههم } ولم يقل : آمنوا بأفواههم ليعلم أن القول به ليس من شرط الإيمان ، إنما الإيمان هو تصديق بالقلب ، لكن [ يعبر ] به اللسان عن قلبه . ألا ترى أنه قال : { ولم تؤمن قلوبهم } ؟ والإيمان هو التصديق في اللغة ، لأن ضده التكذيب ، فيجب أن يكون ضد التكذيب التصديق . [ والإيمان ] يكون بالقلب حين قال صلى الله عليه وسلم : { ولم تؤمن قلوبهم } لكن اللسان يعبر عن ضميره ، فهو ترجمان القلب في ما بين الخلق .

فهذا يدل أيضا على أن الإيمان ليس هو المعرفة لأن الإيمان لو كان معرفة لكان يجب أن يكون شده جهلا . فلما كان ضد الإيمان تكذيبا وجب أن يكون ضد التكذيب التصديق ، والتصديق والإيمان في اللغة سواء . ولأن المعرفة قد تقع في القلب على غير اكتساب فعل ، والتصديق لا يكون إلا باكتساب ترك مضادته ، وهو التكذيب . لذلك قلنا : إن الإيمان ليس هو المعرفة ، ولكنه التصديق .

ثم اختلف في هؤلاء : قال بعضهم : هم المنافقون الذين كانوا يظهرون الإيمان باللسان ، وقلوبهم كافرة ، وقال آخرون ، هم اليهود والمنافقون { الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } [ على أنه ] في المنافقين .

وقوله تعالى : { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } يحتمل : { سماعون } إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبره { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } خبره بالكذب . ومعناه ، والله أعلم ، أنهم كانوا يستمعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وما يقول لهم ، ثم يأتون الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونهم خلاف خبره وغير ما سمعوا منه .

وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إن في التوراة كذا من الأحكام والشرائع ، فإذا سمع هؤلاء منه ذلك أتوا أولئك الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : إنه كاذب ، وليس في التوراة ما يقول هو ، و نحو ذا . وقيل : إنهم كانوا طلائع الكفرة وعيونا لهم . فإذا أتى لهم خبر يخبرون ضعفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما أتاهم نحو قولهم { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } [ آل عمران : 173 ] [ لأنهم كانوا ] يخشونهم ، لئلا يغزوهم ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } يحتمل التحريف وجهين :

[ يحتمل ] تبديل الكتابة من الأصل ، كقوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله } [ البقرة : 79 ] .

ويحتمل تغيير المعنى في العبارة على غير تبديل الكتاب ؛ يغيرون على السفلة والذين لا يعرفون غير ما فهموا منه .

وقوله تعالى : { يقولون إن أوتيتم هذا } يعنون ب { هذا } ما حرفوه ، وغيروه { فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } عن ابن عباس رضي الله عنهما [ أنه ] قال : نزلت الآية في رجل وامرأة من اليهود ، زنيا ، وإن كان حكم الله في التوراة في الزنى الرجم ، وكانوا يرجمون الوضيع منهم إذا زنى ، و لا يرجمون الشريف ، وكانا في شرف وموضع ، وكانا قد أحصنا ، فكرهت اليهود رجمهما [ وكان ] في كتابهم الرجم ، وكانوا أرادوا أن يرتفع الرجم من بينهم وأن يكون /130-أ/ حدهم الجلد . فذلك قوله تعالى : { إن أوتيتم هذا } يعنون الجلد { وإن لم تؤتوه فاحذروا } فكتبوا بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عن ذلك ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما ؟ وهل تجد فيهما الرجم في ما أنزل الله تعالى عليك ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهل ترضون بقضائي في ذلك ؟ قالوا : نعم . فنزل جبريل عليه السلام وقال له : إن أبوا أن يأخذوا به ، فاسألهم عن رجل منهم ، يقال له : ابن صوريا ، قالوا : نعم . قال : فأي رجل ، هو فيكم ؟ قالوا : وهو أعلم [ اليهود على ظهر ] الأرض بما أنزل الله على موسى ، قال : فأرسلوا إليه ، ففعلوا ، فأتاهم ابن صوريا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم . قال : أنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون . قال : اجعلوه بيني وبينكم ، قالوا : نعم رضينا به إذا رضيت . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنى تشرك بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى ؟ هل تجدون في كتابكم الذي أتاكم به موسى في التوراة الرجم على من أحصن ؟ قال ابن صوريا : نعم ، والذي ذكرتني لولا خشية أن تحرقني النار إن كذبت ، أو غيرت ، ما اعترفت لك . ففي هذا وجوه من الدلائل :

أحدهما : أن سألهم عما كتموا من الأحكام والحقوق التي بينهم وبين الله تعالى ليظهر خيانتهم وكذبهم في ما كتموا من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته ، ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله . وفيه إثبات رسالته .

والثاني : أنهم طلبوا منه الرخصة والتخفيف في الحد : أنهم عرفوا أنه رسول الله ، لكنهم كابروا في الإنكار بعدما عرفوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا . وفيه دلالة شهادة بعضهم على بعض لأنه قبل شهادة ابن صوريا عليهم حين شهد بالرجم .

[ والثالث : ما ] قال بعضهم : قوله تعالى : { يحرفون الكلم من بعض مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } الآية إنها نزلت في قتيل قتل عمدا بين قبيلتين بني قريظة [ وبني ] النضير . وكان القتيل من بني قريظة . وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة ، لم يعطوهم القود ، ولن يعطونهم الدية ، [ وإذا ] قتل بنو قريظة من بني النضير لم يرضوا إلا بالقود ؛ يتعززون عليهم . فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأرادوا أن يرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليحكم بينهم ، فقال رجل من المنافقين : إن قتيلكم قتل عمدا وأنا أخشى عليكم القود . فإن كان محمد أمركم بالدية لقتيل منكم ، فأعطوه { وإن لم تؤتوه فاحذروا } فلا ندري فيم كانت القصة ؟ وفيه من الدلائل ما ذكرنا من إثبات الرسالة والنبوة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ومن يرد الله فتنته } قيل : من يرد الله عذابه وإهلاكه فلا يملك أحد دفع ذلك العذاب عنه .

وقيل : الفتنة المحنة أي من يرد الله أن يمتحن بالرجم أو القتل فلن يملك له أحد رفع ذلك .

وقوله تعالى : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } قالت المعتزلة : قوله : { لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } تأويله يحتمل وجهين :

[ الأول ] : يحتمل { لم يرد الله } أي لم يطهر الله قلوبهم .

والثاني : [ يحتمل ] { لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } بالشرك والكفر ، وذلك بعيد لأنه كيف يطهر بالكفر ؟ وبالكفر يتنجس .

لكن الوجه عندنا في قوله تعالى : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } أي { لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } إن علم منهم أنهم يختارون ما اختاروا ، ويريدون ما أرادوا فإنما أراد ما كان علم منهم [ أنهم ] يريدون ما أرادوا ، وإنما أراد ما كان علم منهم أنهم يريدون ، ويختارون . وكذلك قوله تعالى : { ومن يرد الله فتنته } إن علم أنه يريدها ، ويختارها فإنما يريد ما أراد هو ، ويختار .

وظاهر الآية على المعتزلة لأنه قال : { لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } وذلك ظاهر الخلاف ، وبالله العصمة .

وقوله تعالى : { لهم في الدنيا خزي } الخزي في الدنيا القتل والعذاب والخزية { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } .