قوله ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يُحْزِنكَ ) الآية [ 43 ] .
هذه الآية نزلت في أبي لبابة( {[15990]} ) قال : " لبني قريظة –حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم- : إنما هو الذبح فلا تنزِلوا على حكم سعد " ( {[15991]} ) . وقيل : ( إنّه )( {[15992]} ) إنما أشار إليهم بيده إلى حلقه( {[15993]} ) يريد أنه الذبح إن نَزَلتم على حكم سعد( {[15994]} ) .
وقيل : " إنها " ( {[15995]} ) نزلت في عبد الله بن صوريا ارتد بعد إسلامه( {[15996]} ) ، وأُمِر النبي ألاّ يَحزن( {[15997]} ) عليه : وقال أبو هريرة : إن أحبار( {[15998]} ) اليهود اجتمعوا في أمر رجل ( زنى بامرأة )( {[15999]} ) وهما محصنان ، فقالوا( {[16000]} ) : امضوا بنا إلى محمد فَسَلوه( {[16001]} ) كيف الحكم فيهما : فإنْ حَكَم بعملكم( {[16002]} ) من التحميم( {[16003]} ) –وهو الجَلد بحبل من ليف( {[16004]} ) مطلي بِقارٍ( {[16005]} )- ثم يُسَوَّد وجهه ثم يُحمل على حمار ويُحوَّل وجهه ما يلي دُبُر الحمار ، وكذلك يُفعل بالمرأة ، فاتَّبِعوه وصدِّقوه ، فإنه ملك ، وإن ( هو )( {[16006]} ) حكَم بالرجم فاحْذَروه( {[16007]} ) على ما في أيديكم( {[16008]} ) .
فأتوا النبي ، فمشى النبي عليه السلام حتى أتى أحبارهم ( فقال لهم )( {[16009]} ) : أَخرِجوا إليَّ أعلمَكم ، فأخرَجوا ابنَ صوريا الأعور –وكان أحدثَهم سنّاً- فخلا به النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا ابن صوريا أُذكِّرك أيادِيَ الله عند بني إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن( {[16010]} ) زنى بعد إحصانه في التوراة بالرجم ؟ ، فقال : اللّهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ، ولكنهم يحسدونك ! فخرج ( رسول الله )( {[16011]} ) فأمر بهما في جماعة –عند باب مسجده( {[16012]} )- فرُجما ، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، فأنزل الله : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يُحْزِنكَ الذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ ) الآية( {[16013]} ) .
وقال البراء : مُرَّ( {[16014]} ) ( على )( {[16015]} ) النبي بيهودي( {[16016]} ) مُحمَّمٍ مجلودٍ ، فدعا( {[16017]} ) النبي رجلاً من علمائهم فقال : [ هكذا ]( {[16018]} ) تجدون حد( {[16019]} ) الزاني فيكم ؟
قال : نعم ، قال : فأُنشِدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، هكذا تجدون حد الزاني ؟ قال : لا ، ولولا أنك نشدتني ما حَدّثتك ، ولكن كثر الزنى في أشرافنا ، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا نجتمع فنضع( {[16020]} ) شيئاً مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم( {[16021]} ) والجلد( {[16022]} ) مكان الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم )( {[16023]} ) أنا( {[16024]} ) أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ! ، فأمر به فرجم ، فأنزل الله ( لاَ( {[16025]} ) يُحزِنكَ الذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ ) الآية( {[16026]} ) .
وذكر ابن حبيب( {[16027]} ) أن اليهود أنكرت أن يكون الرجم( {[16028]} ) في التوراة فرضاً عليهم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : مَن أعلَمُكم يا معشر يهود ؟ ، قالوا : ابن صوريا –وهو غلام منهم أمرد( {[16029]} ) أبيض أعور- فدعاه ( رسول الله )( {[16030]} ) ، [ فقال " له " ( {[16031]} ) ]( {[16032]} ) : أنت أعلم يهود ؟ ، قال : كذلك يزعمون ، قال له رسول الله : فماذا( {[16033]} ) تجدون ( في( {[16034]} ) الرجم ) في كتاب الله الذي أنزله( {[16035]} ) على موسى ؟ قال : يا محمد إنهم يفضحون الشريف ويرجمون الدني ، وجعل [ يَرُوغ ]( {[16036]} ) عما في كتابهم ، فنزل جبريل عليه السلام على ( رسول الله )( {[16037]} ) صلى الله عليه وسلم فقال له : اِسْتَحْلِفْهُ( {[16038]} ) بما آمرك به( {[16039]} ) ، فإن حلف وكذب ، احترق بين يديك وأنت تنظر ، فقال له رسول الله –وهو الذي أمره به جبريل- :
أُنشِدك الله الذي لا إله إلا هو القوي ، إلَه بني إسرائيل الذي [ أخرجكم ]( {[16040]} ) من مصر وفرق لكم البحر –وأحلفه بأشياء كثيرة- هل تجد( {[16041]} ) في التوراة آية الرجم ( على )( {[16042]} ) المحصن ؟ ، قال : نعم ، والله يا محمد لو قلتُ غير هذا لاحترقتُ بين يديك وأنت تنظر( {[16043]} ) .
وقال ابن جرير ومجاهد : " هم " ( {[16044]} ) ( سَمَّاعُونَ/ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ اخَرِينَ )( {[16045]} ) –هم اليهود( {[16046]} )- .
والمعنى : لا يحزنك تسرع ( من تسرع منهم إلى الكفر ، لأنهم آمنوا بألسنتهم ولم ( يؤمنوا بقلوبهم )( {[16047]} ) . ( وَمِنَ الذِينَ هَادُوا ) أي : ولا يحزنك تسرع )( {[16048]} ) الذين هادوا( {[16049]} ) إلى جحود نبوتك ، ثم وصفهم فقال : ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) أي : هم سماعون للكذب ، وهو قَبولهم ما قال لهم أحبارُهم من الكذب : أن حكم الزاني المحصن –في التوراة- التحميم-( {[16050]} ) والجلد ، وهو صفة لليهود خاصة ، ثم أخبر أنهم سماعون لقوم آخرين لم يأتوا النبي ، وهم أهل الزاني والزانية : بعثوا إلى النبي يسألونه عن الحكم ولم يأتوا النبي( {[16051]} ) .
وقيل : إن السماعين يهود( {[16052]} ) فَدَكٍ ، و " القوم الآخرين( {[16053]} ) " –الذين لم يأتوا النبي- يهود المدينة( {[16054]} ) .
وقيل : المعنى : سماعون من أجل الكذب ، أي : يستمعون( {[16055]} ) منك يا محمد ليكذبوا( {[16056]} ) عليك( {[16057]} ) . ( سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ اخَرِينَ ) أي : يستمعون( {[16058]} ) منك ليُبَلغوا ما سمعوا قوماً آخرين ، فهُمْ عليك عُيون لأولئك الغيب( {[16059]} ) .
( يُحَرِّفُونَ( {[16060]} ) الكَلِمَ ) : أي : يغيرون حكم الله الذي أنزله في التوراة في حكم المحصنين من الزناة ، ومعنى : ( يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ ) أي : حكم الكلم( {[16061]} ) ، ( مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) أي : من بعد وَضعِ الله ذلك مواضِعَه ، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه( {[16062]} ) ، مثل : ( وَلَكِنِ البِرُّ مَنَ امَنَ بِاللَّهِ( {[16063]} ) )( {[16064]} ) .
( يَقُولُونَ إِنُ اُوتِيتُمْ( {[16065]} ) هَذَا فَخُذُوهُ ) أي : ( إن حكم )( {[16066]} ) بهذا الحكم المحرف( {[16067]} ) ( فاقبلوه ، يقول ذلك أحبار اليهود لهم في أمر الزانيين( {[16068]} ) ، [ يقولون ]( {[16069]} ) : إن حكم محمد بينكم( {[16070]} ) بهذا الحكم المحرف )( {[16071]} ) –وهو التحميم والجلد- فخذوه ، ( وَإِن لَّمْ تُوتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) أي : وإن لم يحكم بينكم( {[16072]} ) به فاحذروه ولا تؤمنوا به( {[16073]} ) .
وقال السدي : يهود فدك يقولون ليهود المدينة : إن أوتيتم( {[16074]} ) هذا فخذوه –وهو الجلد- وإن لم تؤتوه فاحذروا –وهو الرجم-( {[16075]} ) .
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : لما حكَّموا النبي صلى الله عليه وسلم في اللَّذَيْن( {[16076]} ) زنيا دعا رسول الله بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها –وقد وضع يده على آية الرجم- فضرب( {[16077]} ) عبد الله بن سلام( {[16078]} ) يد الحبر ثم قال : هذه –يا نبي الله- آية الرجم يأبى( {[16079]} ) أن يتلوها عليك ، فقال لهم النبي عليه السلام : يا معشر يهود ، ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم ؟ فقالوا : أما إنه قد كان فيما( {[16080]} ) نعمل به حتى زنى منا رجل بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف ، فمنعه الملك من الرجم ، ثم زنى رجل بعده فقالوا : لا والله لا نرجمه( {[16081]} ) حتى يرجم فلان ، ( فلما( {[16082]} ) فعلوا ذلك ، اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التحميم وأماتوا ذكر الرجم )( {[16083]} ) ، فقال النبي : فأنا( {[16084]} ) أول من أحيا أمر الله ، ثم أمر بهما ورجما( {[16085]} ) عند باب المسجد ، قال ابن( {[16086]} ) عمر : فكنت ممن( {[16087]} ) رجمهما( {[16088]} ) .
وقال قتادة : الآية نزلت في قتيل من بني قريظة ، قتله بنو النضير( {[16089]} ) ، وكانت بنوا النضير( {[16090]} ) إذا قتلت قتيلاً وَدَت( {[16091]} ) الدية –لا غير- لفضلهم ، وإذا قُتل لهم قتيل لم يرضوا( {[16092]} ) إلا بالقَود تَعزُّراً( {[16093]} ) ، فأرادت النضير( {[16094]} ) أن ترفع أمر القتيل –الذي قتلوه- إلى النبي ، فقال لهم رجل من المنافقين : إن قتيلكم هذا قتيلُ عمد ، متى رفعتموه إلى محمد خَشِيتُ عليكم القَوَد ، فإن قُبلت منكم الدّية فأعطوها ، وإلا فكونوا منه على حذر( {[16095]} ) .
وقوله : ( وَمَن يُّرِدِ/( {[16096]} ) اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ) : هو تسلية( {[16097]} ) للنبي عليه السلام ألا يحزن على مسارعة من سارع( {[16098]} ) إلى الكفر من المنافقين واليهود ، وفتنته( {[16099]} ) : ضلالته( {[16100]} ) .
( فَلَن تَمْلِكَ ( لَهُ )( {[16101]} ) مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ) : لا اهتداء( {[16102]} ) له أبداً( {[16103]} ) .
( أُوْلاَئِكَ الذِينَ لَمْ يِرِدِ اللَّهُ أَنْ يُّطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) أي : بالإسلام " في الدنيا " ( {[16104]} ) .
( لَهُم فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) أي : ذل وصغار وأداء الجزية عن يد( {[16105]} ) ، ( وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )( {[16106]} ) .
وزعمت المعتزلة والقدرية أن الله لم يرد كفر أحد من خلقه ، وأراد أن يكون جميع الخلق مؤمنين( {[16107]} ) ، فكان ما( {[16108]} ) لم يرد ولم يكن ما أراد –تعالى عن ذلك- ، وقد قال ( الله )( {[16109]} ) : ( لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُّطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ )( {[16110]} ) وقال : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى )( {[16111]} ) وقال : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ )( {[16112]} ) ، وقال : ( وَلَوْ شَاءَ [ رَبُّكَ ] مَا فَعَلُوهُ )( {[16113]} ) وقال : ( وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا( {[16114]} ) وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ]( {[16115]} ) )( {[16116]} ) .
و( {[16117]} )قال : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَّشَاءَ اللَّهُ )( {[16118]} ) ، وقال : ( وَمَنْ يُّرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً )( {[16119]} ) ، وقال : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ [ مَن( {[16120]} ) ] فِي الاَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً )( {[16121]} ) ، وقال : ( أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً )( {[16122]} ) ، وقال : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمُ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُّضِلُّ مَنْ يَّشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَّشَاءُ )( {[16123]} ) ، وفي كتاب الله من هذا ما( {[16124]} ) لا يحصى ، يخبر( {[16125]} ) تعالى في جميعه أنه أراد جميع ما كان وما يكون ، وأن جميع الحوادث كانت عن إرادته ومشيئته( {[16126]} ) ، وأنه لو شاء لأحدثها( {[16127]} ) على خلاف ما حدثت فيجعل الناس كلَّهم مؤمنين . فعَندت( {[16128]} ) المعتزلة عليها لعنة الله( {[16129]} ) عن ذلك وخالفته( {[16130]} ) ، وقالت : حدث كفر الكافر على غير إرادة من الله( {[16131]} ) ، وعلى إرادة من الشيطان ، وقد أجمع المسلمون على قولهم : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . وقالت المعتزلة( {[16132]} ) : يكون ما لا يشاء الله ، وهو كفر الكافر ، معاندةً لإجماع الأمة ، وقد حصلت المعتزلة في قولها على أنه ليس الله –تعالى ذكره- على إبليس مزيَةٌ ، لأن إبليس شاء [ ألاّ ]( {[16133]} ) يؤمن أحد( {[16134]} ) فآمن( {[16135]} ) المؤمنون ، فكان خلاف ما شاء ، وشاء الله –عندهم- ألا يكفر أحد فكفر الكافرون ، فكان خلاف ما شاء ، فلا فرق بينهما على قولهم الملاعين ، تعالى ربنا عما قالت المعتزلة علواً كبيراً ، بل كان عن مشيئته( {[16136]} ) ، كان يفعل ( ما )( {[16137]} ) يشاء : يوفق من يشاء فيؤمن ، ويخذل من يشاء فيكفر ، لا معقب لحكمه ولا رادّ لمشيئته( {[16138]} ) ، خلق من شاء( {[16139]} ) للسعادة فوفقه( {[16140]} ) لعملها ، وخلق من شاء( {[16141]} ) للشقاء وخذله عن العمل بغير عمل أهل الشقاء ، " كل مُيَسَّر لِما خُلِق لَهُ " ( {[16142]} ) ، هذا هو الصراط المستقيم ، أعاذنا( {[16143]} ) الله من الزيغ عن الحق( {[16144]} ) .