الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

{ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } وقرأ السلمي يسارعون في الكفر أي في هؤلاء الكفار ومظاهرتهم فلم يعجزوا اللّه { مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } وهم المنافقون نظيره ، قوله

{ وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } يعني قوّالين به يعني بني قريضة { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } يعني يهود خيبر وذلك عين ما قاله أهل التفسير وذلك " أن رجلاً وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا ، وإسم المرأة بسرة وكانت خيبر حرباً لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان الزانيان محصنين ، وكان حدّهما الرّجم في التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فقالوا : إن هذا الرجل النبي بيثرب ليس في كتابه الرّجم ولكنه الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريضة فإنهم صلح له وجيرانه ، فليسألوه ، فبعثوا رهطاً منهم مستخفين . فقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانيين إذا أحصنا أحدهما فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا الزانين معهم فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير . فقال لهم : إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده ، وقد حدث فينا حدث زنيا وقد أحصنا فيجب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه ، فقال لهم بنو قريظة والنضير : إذاً واللّه يأمركم بما تكرهون من ذلك ثم إنطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وسعد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وعباس بن قيس وأبو نافع وأبو يوسف وعازار وسلول إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما وكيف تجد في كتابك ؟ فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " وهل ترضون قضائي في ذلك ؟ "

قالوا : نعم ، فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به ، فقال له جبرئيل : إجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا " قال : فأي رجل فيكم ؟

قالوا : هو أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللّه تعالى على موسى في التوراة ، قال : أرسلوا إليه ، ففعلوا فأتاهم عبد اللّه بن صوريا ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " أنت ابن صوريا ؟ " قال : نعم ، قال : " فأنت أعلم اليهود ؟ " ، قال : كذلك يزعمون ، قال : " أتجعلونه بيني وبينكم ؟ " قالوا : نعم قد رضينا به إذ رضيت به ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " فإني أنشدك باللّه الذي لا إله إلاّ هو القوي إله بني إسرائيل الذي أنزل التوراة على موسى الذي أخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي ضلل الغمام فأنزل عليكم المنّ والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه فهل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن " . قال ابن صوريا : نعم والذي ذكّرني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ولكن كيف هو في كتابك يا محمد ؟ قال : " إذا شهد أربعة رهط عدول إنه قد أدخله فيهاكما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم " . قال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " فماذا كان أوّل ما ترخصتم به أمر اللّه " ؟

قال : كنّا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا للضعيف أقمنا عليه الحد وكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنا رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه ، فقال : واللّه لا ترجمون حتى يرجم فلاناً ابن عم الملك . فقال : تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسوّد وجوههما ثم يحملان على حمارين فحوّل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم . قال اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما اتهمتنا عليك بأهل ، ولكنّك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك فقال لهم : نشد في التوراة لولا ضنيت التوراة أن تهلكني لما أخبرته به ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده ، وقال : " أنا أول من أحيا أمره إذ أماتوه " .

قال عبد اللّه بن عمر : شهدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما أمر برجم [ اليهوديين فرأيته حنا عليهما ليقيهما بالحجارة ] ونزلت { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] فلا يخبركم به " فوضع ابن صوريا يده على ركبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال : أنشدك باللّه وأُعيذك باللّه أن تخبرنا بالكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنه فقال له ابن صوريا : أخبرني عن ثلاث خصال أسألك عنهنّ ، قال : ما هي ؟ قال : أخبرني عن نومك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تنام عيناي وقلبي يقظان " قال له : صدقت ، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبهه أمه شيء أو شبهه أمه فيه ليس فيه من شبهه أبيه شيء ، قال : " أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له " قال له : صدقت ، فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه ؟ قال : فأغمي على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم خلي عنه محمراً وجهه يفيض عرقاً فقال صلى الله عليه وسلم " اللحم والدّم والظفر والشعر للمرأة والعظم والعصاب والعروق للرجل " قال له : صدقت أمرك أمر نبي فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال : يا محمد من يأتيك من الملائكة ؟ قال : جبرئيل .

قال : صفه لي ، فوصفه له النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد إنه في التوراة كما قلت وإنّك رسول اللّه حقّاً فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير ، فقالوا : يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد إذا قتلوا منا قتيلاً لم يفدونا وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر وإن كان القتيل إمرأة . يفدوا بها الرجل ، وبالرجل منهم الرجلين منّا ، وبالعبد منهم الحرّ منّا ، وجراحتنا بالنصف من جراحتهم فأمعن بيننا وبينهم ، فأنزل اللّه تعالى في الرجم والقصاص { يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ } "

رفع الخبر بحرف الصفة يعني ومن الذين هادوا فهم سمّاعون ، وإن شئت جعلته خبر ابتداء مضمر أي فهم سمّاعون للكذب ، وقيل : اللام بمعنى إلى .

كان أبو حاتم يقول : اللام في الكذب لام كي يسمعون لكي يكذبوا عليك . واللام في قوله لام أجل من أجل قوم آخرين { لَمْ يَأْتُوكَ } وهم أهل خيبر { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } جمع الكلمة { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي من بعد وضعه مواضعه كقوله

{ ولَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } [ البقرة : 189 ] . وإنما ذكر الكتابة ردّاً إلى اللفظ وهو الكلم . وقرأ علي : يحرّفون الكلام من بعد مواضعه { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } أي إن أفتاكم محمد بالجلد والرجم فاقبلوه { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ } كفره وضلالته .

قال مجاهد : دليله قوله

{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ }

الآية [ البقرة : 193 ] ، [ الأنفال : 39 ] .

وقال الضحّاك : هلاكه ، قتادة : عذابه نظيره ولم يأمرهم على من يؤمنون { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } أي بالهداية على القدرة { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } للمنافقين الفضيحة وهتك الستر وخوف القتل ، ولليهود الجزية والقتل والسبي ، [ . . . . . . . . . . . ] عن محمد ( عليه السلام ) وأصحابه وفيهم ما يكرهون { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } الخلود في النار .