تفسير مقاتل بن سليمان - مقاتل  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

وقوله سبحانه : { يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم } ، يعني صدقنا بألسنتهم ، { ولم تؤمن قلوبهم } في السر ، نزلت في أبي لبابة ، اسمه : مروان بن عبد المنذر الأنصاري ، من بني عمرو بن عوزف ، وذلك أنه أشار إلى أهل قريظة إلى حلقه أن محمدا جاء يحكم فيكم بالموت ، فلا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وكان حليفا لهم ، ثم قال سبحانه : { ومن الذين هادوا } ، أي ولا يحزنك الذين هادوا ، يعني يهود المدينة .

{ سماعون للكذب } ، يعني قوالون للكذب ، منهم : كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وأبو لبابة ، وسعيد بن مالك ، وابن صوريا ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وشاس بن قيس ، وأبو رافع بن حريملة ، ويوسف بن عازر بن أبي عازب ، وسلول بن أبي سلول ، والبخام بن عمرو ، وهم { سماعون لقوم آخرين } ، يعني يهود خيبر ، { لم يأتوك } يا محمد { يحرفون الكلم } ، يعني أمر الرجم ، { من بعد مواضعه } عن بيانه في التوراة . وذلك أن رجلا من اليهود يسمى يهوذا ، وإمرأة تسمى بسرة من أهل خيبر من أشراف اليهود ، زنيا وكانا قد أحصنا ، فكرهت اليهود رجمهما من أجل شرفهما وموضعهما ، فقالت يهود خيبر ، نبعث بهذين إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن في دينه الضرب ، وليس في دينه الرجم ، ونوليه الحكم فيهما ، فإن أمركم فيهما بالضرب فخذوه ، وإن أمركم فيهما بالرجم فاحذروه ، فكتب يهود خيبر إلى يهود المدينة ، إلى كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، وأبي لبابة ، وبعثوا نفرا منهم ، فقالوا : سلوا لنا محمدا ، عليه السلام ، عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما ؟ فإن أمركم بالجلد فخذوا به ، والجلد الضرب بحبل من ليف مطلي بالقار ، وتسود وجوههما ويحملان على حمار ، وتجعل وجوههما مما يلي ذنب الحمار ، فذلك التجبية .

{ يقولون } ، أي اليهود ، { إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } ، أي إن أمركم بالرجم فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه ، قال : فجاء كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ، وأبو لبابة ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أخبرنا عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما ، فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فأخبره بالرجم ، ثم قال جبريل ، عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، وسلهم عنه ، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس ، فقال : "يا معشر اليهود ، أخرجوا إلى علماءكم" ، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا ، وأبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا ، ثم حصر أمرهم ، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقى بالتوراة ، فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكان ابن صوريا غلاما شابا ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو إله بني إسرائيل ، الذي أخرجكم من مصر ، وفلق لكم البحر ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وأنزل عليكم كتابه يبين لكم حلاله وحرامه ، وظلل عليكم المن والسلوى ، هل وجدتم في كتابكم أن الرجم على من أحصن ؟" ، قال ابن صوريا : اللهم نعم ، ولولا أني خفت أن أحترق بالنار ، أو أهلك بالعذاب ، لكتمتك حين سألتني ، ولم أعترف لك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر ، فأنا أول من أحيا سنة من سنن الله عز وجل" ، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده في بنى غنم بن مالك بن النجار .

فقال عبد الله بن صوريا : والله يا محمد ، إن اليهود لتعلم أنك نبي حق ، ولكنهم يحسدونك ، ثم كفر أبن صوريا بعد ذلك ، فأنزل الله عز وجل : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } ، يعني مما في التوراة من أمر الرجم ، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : { ويعفو عن كثير } ، فلا يخبر به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود : "إن شئتم أخبرتكم بالكثير" ، قال ابن صوريا : أنشدك بالله أن تخبرنا بالكثير مما أمرت أن تعفو عنه .

ثم قال ابن صوريا للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرني عن ثلاث خصال لا يعلمهن إلا نبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هات سل عما شئت" ، قال : أخبرني عن نومك ؟ قال : "تنام عيني وقلبي يقظان" ، قال ابن صوريا : صدقت ، قال : فأخبرني عن شبه الولد ، من أين يشبه الأب أو الأم ؟ قال : "أيهما سبقت الشهوة له كان الشبه له" ، قال : صدقت ، قال : أخبرني ما للرجل وما للمرأة من الولد ، ومن أيهما يكون ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللحم والدم والظفر والشعر للمرأة ، والعظم والعصب والعروق للرجل" ، قال : صدقت ، قال : فمن وزيرك من الملائكة ، ومن يجيئك بالوحي ؟ قال : "جبريل عليه السلام" ، قال : صدقت يا محمد ، وأسلم عند ذلك . قوله سبحانه : { إن أوتيتم هذا فخذوه } ، يقول ذلك يهود خيبر ليهود المدينة ، كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ، وأبي لبابة : إن أمركم محمد

بالجلد فاقبلوه ، وإن لم تؤتوه ، يعني الجلد ، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ، فإنه نبي ، قال الله عز وجل : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين } يعني اليهود ، { لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } من الكفر حين كتموا أمر الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم ، { لهم في الدنيا خزي } ، يعني به اليهود ، وهم أهل قريظة ، أما الخزي الذي نزل بهم ، فهو القتل والسبي ، وأما خزي أهل النضير ، فهو الخروج من ديارهم وأموالهم وجناتهم ، فأجلوا إلى الشام ، إلى أذرعات وأريحا ، { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [ آية :41 ] ، يعني ما عظم من النار .