البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } روي عن أبي هريرة وابن عباس وجماعة : أن سبب نزولها أنّ يهودياً زنى بيهودية ، قيل : بالمدينة .

وقيل : بغيرها من أرض الحجاز ، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما ، وكان في التوراة رجم ، فأنكروا ذلك أن يكون في التوراة وافتضحوا إذ أحضروها ، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه .

وقال قتادة : السبب أنّ بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة ، فإن قتل قرظي نضيرياً قتل به ، أو نضيري قرظياً أعطى الدية .

وقيل : كانت دية القرظي على نصف دية النضيري ، فلما جاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما ابناء عم ، وطلبت الحكومة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت بنو النضير : إنْ حكم بما نحن عليه فخذوه ، وإلا فاحذروا .

وقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية .

وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر ، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم علام ينزل من الحكم ، فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح .

وقال الشعبي : نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر ، فكلفوا رجلاً من المسلمين أن يسأل الرسول قالوا : فإنْ أفتى بالدية قبلنا ، وإن أفتى بالقتل لم نقبل .

وهذا نحو من قول قتادة في النضير وقريظة .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة ، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين ، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه ، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض .

ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم .

ونداؤه تعالى له : يا أيها الرسول هنا ، وفي { يا أيها الرسول بلغ } ويا أيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره ، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال : { يا آدم اسكن } و { يا نوح اهبط } { يا ابراهيم قد صدّقت الرؤيا } { يا موسى إني اصطفيتك } { يا عيسى إني متوفيك } { يا يحيى خذ الكتاب } وقال مجاهد وعبد الله بن كثير : من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، هم اليهود المنافقون ، وسماعون للكذب هم اليهود .

والمعنى على هذا : لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله ، فإنّ ناصرك عليهم ويقال : أسرع فيه السبب ، وأسرع فيه الفساد ، إذا وقع فيه سريعاً .

ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه .

أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها ، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيهاً وتقسيماً للذين يسارعون في الكفر ، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي : هم سماعون ، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود .

ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك : سماعين ، وانتصابه على الذم نحو قوله :

أقارع عوف لا أحاول غيرها *** وجوه قرود تبتغي من تخادع

ويجوز أن يكون : { ومن الذين هادوا } استئنافاً ، وسماعون مبتدأ وهم اليهود ، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى : أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم ، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد .

وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود ، وصفهم بأنهم قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاماً منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها ، فهم يقولون بأفواههم : نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى ، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما ينكرونه .

ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا { وما أولئك بالمؤمنين } ويجيء على هذا التأويل قوله : من الذين قالوا كأنه قال : ومنهم ، ولكنْ صرّح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدّل التوراة على علم منها انتهى .

وهو احتمال بعيد متكلف ، وسماعون من صفات المبالغة ، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولاً من أجله ، ويكون المعنى : إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك ، وينقلون حديثك ، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذباً .

وإن كان للكذب مفعولاً به لقوله : سماعون ، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل ، فمعنى السماع هنا قبولهم ما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه « سمع الله لمن حمده » وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثياً ورباعياً .

وقرأ السلمي : يسرعون بغير ألف من أسرع .

وقرأ الحسن وعيسى بن عمر : للكذب بكسر الكاف وسكون الذال .

وقرأ زيد بن عليّ : الكذب بضم الكاف والذال جمع كذوب ، نحو صبور وصبر ، أي : سماعون للكذب الكذب .

{ سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } فيحتمل أن يكون المعنى : سماعون لكذب قوم آخرين لم يأتوك أي كذبهم ، والذين لم يأتوه يهود فدك .

وقيل : يهود خيبر .

وقيل : أهل الرأيين .

وقيل : أهل الخصام في القتل والدية .

ويحتمل أن يكون المعنى : سماعون لأجل قوم آخرين ، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين ، وهذا الوصف يمكن أن يتصف به المنافقون ، ويهود المدينة .

وقيل : السماعون بنو قريظة ، والقوم الآخرون يهود خيبر .

وقيل لسفيان بن عيينة : هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله ؟ فقال : نعم .

وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين ، لم يأتوك : صفة لقوم آخرين .

ومعنى لم يأتوك : لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدّة العداوة والبغضاء ، فعلى هذا الظاهر أن المعنى : هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم ، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك .

{ يحرّفون الكلم من بعض مواضعه } قرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي : يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها .

قال ابن عباس والجمهور : هي حدود الله في التوراة ، وذلك أنهم غيروا الرجم أي : وضعوا الجلد مكان الرجم .

وقال الحسن : يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه .

وقيل : بإخفاء صفة الرسول .

وقيل : بإسقاط القود بعد استحقاقه .

وقيل : بسوء التأويل .

قال الطبري : المعنى يحرفون حكم الكلام ، فحذف للعلم به انتهى .

ويحتمل أن يكون هذا وصفاً لليهود فقط ، ويحتمل أن يكون وصفاً لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم ، لأن مبادىء كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت ، وهذا هو الكذب الذي يقرب قبوله .

ومعنى من بعد مواضعه : قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه ، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه .

{ يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } الإشارة بهذا قيل : إلى التحميم والجلد في الزنا .

وقيل : إلى قبول الدية في أمر القتل .

وقيل : على إبقاء عزة النضير على قريظة ، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول .

وقال الزمخشري : إن أوتيتم ، هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق ، واعملوا به انتهى .

وهو راجع لواحد مما ذكرناه ، والفاعل المحذوف هو الرسول أي : إن أتاكم الرسول هذا .

{ وإن لم تؤتوه فاحذروا } أي : وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال .

وقيل : فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد .

وقيل : أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به .

وقيل : فاحذروا أن تسألوه بعدها ، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله : فخذوه .

فالمعنى : وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله .

{ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } قال الحسن وقتادة : فتنته أي عذابه بالنار .

ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون .

وقال الزجاج : فضيحته .

وقيل : اختباره لما يظهر به أمره .

وقيل : إهلاكه .

وقال ابن عباس ومجاهد : كفره وإضلاله ، يقال : فتنه عن دينه صرفه عنه ، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه .

وقال الزمخشري : ومن يرد الله فتنته تركه مفتوناً وخذلانه ، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً انتهى .

وهذا على طريقة الاعتزال .

وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر .

وقطعاً لرجائه من فلاحهم .

{ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } أي سبق لهم في علم الله ذلك ، وأن يكونوا مدنسين بالكفر .

وفي هذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة .

وقال الزمخشري : أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم ، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها .

إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم انتهى .

وهو على مذهبه الاعتزالي .

{ لهم في الدنيا خزي } أي ذل وفضيحة .

فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون ، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزية عليهم ، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمّة غيرهم وفي إيالته .

وقال مقاتل : خزي قريظة بقتلهم وسبيهم ، وخزي بني النضير بإجلائهم .

{ ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له ، أو لتزايد ألمه أو لهما .