فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تأتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( 41 ) }

{ يا أيها الرسول } هذا خطاب تشريف وتكريم وتعظيم ، وقد خاطبه الله عز وجل بيا أيها النبي في مواضع من كتابه ، وبيا أيها الرسول في موضعين هذا أحدهما والآخر قوله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } .

{ لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } أي لا تهتم وتبال بهم فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم ، والحزن خلاف السرور ، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين وأحزنه غيره ، قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما .

وفي الآية النهي له صلى الله عليه وسلم عن التأثر لمسارعة الكفر في كفرهم تأثرا بليغا على أبلغ وجه وآكده ، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه نهي عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله ، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم ، والمسارعة إلى الشيء الوقوع فيه بسرعة ، والمراد هنا وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة ، وآثر لفظ { في } على لفظ إلى للدلالة على استقرارهم فيه ، والمسارعون هم اليهود ، قاله بن عباس .

{ من الذي قالوا } من بيانية والجملة مبينة للمسارعين في الكفر ، وهؤلاء الذين قالوا { آمنا بأفواههم } بألسنتهم { ولم تؤمن قلوبهم } هم المنافقون ، قاله ابن عباس ، والمعنى أن المسارعين في الكفر طائفة من المنافقين { ومن الذين هادوا } أي طائفة من اليهود قال الزجاج الكلام تم عند قوله هذا ثم ابتدأ الكلام بقوله :

{ سماعون للكذب } وهذا راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين ، واللام في قوله للكذب للتقوية أو لتضمين السماع معنى القول ، وقيل معناه من الذين هادوا قوم قائلون الكذب من رؤسائهم المحرفين للتوراة { سماعون } أي لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الكذب عليه { لقوم آخرين } وجهوهم عيونا وجواسيس لهم لأجل أن يبلغوهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الفراء : ويجوز سماعين كما قال ملعونين أينما ثقفوا ، والحاصل أن هؤلاء القوم من اليهود لهم صفتان سماع الكذب من أحبارهم ونقله إلى عوامهم ، وسماع الحق منك ونقله إلى أحبارهم ليحرفوه .

{ لم يأتوك } صفة لقوم أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبرا وتمردا وقيل هم جماعة من المنافقين كانوا يجتنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم .

{ ويحرفون الكلم } الذي في التوراة كآية الرجم أي يزيلونه ويميلونه أو يتأولونه على غير تأويله والمحرفون هم اليهود ، قال القسطلاني في إرشاد الساري : وقد صرح كثير بأن اليهود والنصارى بدلوا ألفاظا كثيرة من التوراة والإنجيل وأتوا بغيرها من قبل أنفسهم ، وحرفوا أيضا كثيرا من المعاني بتأويلها على غير الوجه .

ومنهم من قال أنهم بدلوهما كليهما ، ومن ثم{[634]} قيل بامتهانهما ، وفيه نظر إذ الآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل ، منها آية الذين يتبعون الرسول الني الأمي ، وقصة رجم اليهوديين ، وقيل التبديل وقع في اليسير منهما ، وقيل وقع في المعاني لا في الألفاظ ، وفيه نظر فقد وجد في الكتابين ما لا يجوز أن يكون بهذه الألفاظ من عند الله أصلا ، وقد نقل بعضهم الإجماع على أنه لا يجوز الاشتغال بالتوراة والإنجيل ولا كتابتهما ولا نظرهما .

وعند أحمد والبزار واللفظ له من حديث جابر قال : نسخ عمر كتابا من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ ووجه النبي صلى الله عليه وسلم يتغير فقال له رجل من الأنصار : ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا إتباعي{[635]} ، وروي في ذلك أحاديث أخر كلها ضعيف لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا .

قال الحافظ ابن حجر في الفتح ، ومنه لخصت ما ذكرته : والذي يظهر أن كراهة ذلك للتنزيه لا للتحريم .

والأولى في هذه المسألة التفرقة ين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيه ولاسيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف ، ويدل له نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة وإلزامهم التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم .

وأما الاستدلال للتحريم بما ورد من غضبه صلى الله عليه وسلم فمردود بأنه قد يغضب من فعل مكروه ومن فعل ما هو خلاف الأولى إذا صدر ممن لا يليق به ذلك كغضبه من تطويل معاذ الصلاة بالقراءة انتهى .

أقول وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في سورة النساء بأطول من ذلك ، وقد قال جماعة من أهل المعرفة بالتحقيق بأن التحريف الواقع في التوراة معنوي لا لفظي وإليه ذهب حبر الأمة وترجمان القرآن بن عباس ، والشيخ ولي الله المحدث الدهلوي في الفوز الكبير وغيرهما والله سبحانه أعلم .

{ من بعد } كونه موضوعا في { مواضعه } أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه أو من حيث معناه .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليهم وسلم : ما تجدون في التوراة قالوا نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها آية فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع فإذا آية الرجم ، قالوا : صدق ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما{[636]} .

وقال الحسن في الآية : إنهم يغيرون ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب عليه ، والأول أولى ، وقال ابن جرير الطبري يحرفون حكم الكلم فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين به وفيه بعد .

{ يقولون إن أوتيتم هذا } الإشارة إلى الكلام المحرف أي قال يهود فدك ليهود المدينة إن أوتيتم من جهة محمد بهذا الكلام الذي حرفناه أي الجلد { فخذوه } وأعملوا به { وإن لم تؤتوه } بل جاءكم بغيره وأفتاكم بخلافه { فاحذروا } من قبوله والعمل به .

{ ومن يرد الله فتنته } أي ضلالته { فلن تملك له من الله شيئا } أي فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته ، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها وظاهرها العموم ، ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولا أوليا .

{ أولئك } الإشارة إلى ما تقدم ذكرهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا وما اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد .

{ الذي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق وخبث الضلالة كما طهر قلوب المؤمنين ، والجملة استئناف مبين لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم وقبح صنيعهم الموجب لها لا واقعة منه تعالى ابتداء .

وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لم يرد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشكل والشرك ولو فعل ذلك لآمن ، وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية .

{ لهم في الدنيا خزي } بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة { ولهم في الآخرة عذاب أليم } يعني الخلود في النار .


[634]:ثم بفتح الثاء أي هنا.
[635]:أحمد ابن حنل2/228.
[636]:البخاري الباب26 من كتاب المناقب والباب37 من كتاب الحدود.