قوله تعالى :{ وأيوب إذ نادى ربه } يعني دعا ربه ، قال وهب بن منبه : كان أيوب رجلاً من الروم وهو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم ، وكانت أمه من أولاد لوط بن هاران ، وكان الله قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا ، وكانت له البثنية من أرض الشام ، كلها سهلها وجبلها ، وكان له فيها من أصناف المال كله ، من البقر والإبل والغنم والخيل والحمر ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدة والكثرة ، وكان له خمسمائة فدان ، يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ومال ، ويحمل آلة كل فدان أتان وكل أتان ولد من الولد اثنان وثلاثة وأربعة وخمسة ، وفوق ذلك ، وكان الله أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء ، وكان براً تقياً رحيماً بالمساكين ، يطعم المساكين ويكفل الأرامل والأيتام ، ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل ، وكان شاكراً لأنعم الله مؤدياً لحق الله ، قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا ، وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه رجل من أهل اليمن يقال له : النغر ، ورجلان من أهل بلدة يقال لأحدهما : يلدد والآخر صافر وكانوا كهولاً ، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات ، وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع سموات ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث الباقية ، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب ، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه ، فأدركه البغي والحسد ، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه ، فقال إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ، ولخرج من طاعتك ، قال الله عز وجل : انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض عدو الله إبليس حتى وقع إلى الأرض ، ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين ، وقال لهم : ماذا عندكم من القوة ؟ فإني قد سلطت على مال أيوب ، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال ، فقال عفريت من الشياطين أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار وأحرقت كل شيء آتي عليه ، قال له إبليس : فأت الإبل ورعاتها ، فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها وثبتت في مراعيها ، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق فأحرقتها ورعايتها حتى أتى على آخرها ، ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قبيحة على قعود إلى أيوب فوجده قائماً يصلي ، فقال : يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري ، فقال أيوب : الحمد لله الذي أعطاها وهو أخذها ، وقديماً ما وطنت نفسي ومالي على الفناء ، فقال إبليس : فإن ربك أرسل عليها ناراً من السماء فاحترقت فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها ، منهم من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه ، ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ذلك ليشمت به عدوه ويفجع صديقه . فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني ، عرياناً خرجت من بطن أمي ، وعرياناً أعود في التراب ، وعرياناً أحشر إلى الله ، ليس لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته منك ، الله أولى بك وبما أعطاك ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيداً ، ولكنه علم منك شراً فأخرك ، فرجع إبليس إلى أصحابه خائباً خاسراً ذليلاً فقال لهم : ماذا عندكم من القوة ؟ فإني لم أكلم قلبه ، قال عفريت : عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه ، قال إبليس فأت الغنم ورعاتها ، فانطلق حتى توسطها ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتاً عن آخرها ومات رعاؤها ، ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي ، فقال له مثل القول الأول ، فرد عليه مثل الرد الأول ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال : ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب ، فقال عفريت عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً تنسف كل شيء تأتي عليه ، قال فأت الفدادين والحرث فانطلق ولم يشعروا حتى هبت ريح عاصف ، فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن ، ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي ، فقال له مثل القول الأول ، فرد عليه أيوب مثل رده الأول كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه ، ورضي منه بالقضاء ، ووطن نفسه بالصبر على البلاء ، حتى لم يبق له مال . فلما رأى إبليس أنه قد أفني ماله صعد إلى السماء فقال : إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت تعطيه المال فهل مسلطي على ولده ، فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ، قال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ولده ، فانقض عدو الله حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل ، حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع القصر فقلبه فصاروا منكسين ، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وقال : لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم ودماغهم ، ولو رأيت كيف شقت بطونهم وتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك ، فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق أيوب فبكي وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه ، وقال : يا ليت أمي لم تلدني ، فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً به ، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر ، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى الله وهو أعلم ، فوقف إبليس ذليلاً فقال : يا إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى منك أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده ؟ فقال الله عز وجل : انطلق فقد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ، وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة له ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين ، وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ، ليتأسوا به في الصبر ورجاءً للثواب ، فانقض عدو الله سريعاً فوجد أيوب ساجداً فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه ، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جميع جسده ، فخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليات الغنم ، ووقعت فيه حكة فحكها بأظفاره حتى سقطت كلها ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة ، فلم يزل يحكها حتى نغل لحمه ، وتقطع وتغير وأنتن ، وأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة ، وجعلوا له عريشاً ، فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته رحمة ، وهي بنت أفراثيم بن يوسف بن يعقوب كانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه ، فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم : يقن ويلدد وصافر ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه ، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه فبكتوه ولاموه وقالوا له : تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت به ، وكان ممن حضره معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه ، فقال لهم : إنكم تكلمتم أيها الكهول ، وكنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ، ولكن قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم ، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم ، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته من خلقه وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ؟ ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله من أمره على أنه قد سخط عليه شيئاً من أمره منذ آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ، ولا على أنه نزع منه شيئاً من الكرامة التي أكرمه بها ، ولا أن أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا ، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين ، وليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ، ولكنه كرامة وخيرة لهم ، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ، ولا أن يعيره بالمصيبة ، ولا أن يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين ، ولكنه يرحمه ويبكي معه ، ويستغفر له ، ويحزن لحزنه ، ويدله على مراشد أمره ، وليس بحليم ولا رشيد من جهل هذا ، فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله عز جلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ، ويكسر قلوبكم ، ألم تعلموا أن لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم ، وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم ، واقشعرت جلودهم ، وانكسرت قلوبه ، وطاشت عقولهم إعظاماً وإجلالاً لله عز وجل ، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله عز وجل بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين ، وإنهم لأبرار نزهاء برءاء ، ومع المقصرين والمفرطين ، وأنهم لأكياس أقوياء ، فقال أيوب : إن الله عز وجل يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير ، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان ، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ولا طول التجربة ، وإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة ، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستغيثاً به متضرعاً إليه ، فقال رب لأي شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني . يا ليتني قد عرفت الذنب الذي أذنبت ، والعمل الذي عملت ، فصرفت به وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي الكرام ، فالموت كان أجمل بي ألم أكن للغريب داراً ، وللمسكين قراراً ، ولليتيم ولياً ، وللأرملة قيماً ، إلهي أنا عبدك إن أحسنت فالمن لك ، وإن أسأت فبيدك عقوبتي وجعلتني للبلاء غرضاً ، وللفتنة نصباً ، وقد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله ، فكيف يحمله ضعفي وإن قضاءك هو الذي أذلني ، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ، ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه ، فلا نظر إلي فيرحمني ، ولا دنا مني ولا أدناني فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي ، فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب أليم ، ثم نودي يا أيوب إن الله عز وجل يقول : ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً قم فأدل بعذرك ، وتكلم ببراءتك ، وخاصم عن نفسك ، واشدد إزارك ، وقم مقام جبار يخاصم جباراً إن استطعت ، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ، ولا شبه لي لقد منتك نفسك يا أيوب أمراً ما تبلغه بمثل قوتك ، أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها ، هل كنت معي تمد بأطرافها ؟ هل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها ؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض ، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاءً ؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا تقلها دعم من تحتها ؟ هل تبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ؟ أين أنت مني يوم انبعث الأنهار وسجرت البحار ؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها ، أم بقدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها ؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال ؟ هل تدري من أي شيء أرسيتها ؟ وبأي مثقال وزنتها ؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها ؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء ؟ أم هل تدري من أي شيء أنشيء السحاب ؟ أم هل تدري أين خزائن الثلج ؟ أم أين جبال البرد أم أين خزانة الليل بالنهار ، وخزانة النهار بالليل ، وأين خزانة الريح ؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال ؟ ومن شق الأسماع والأبصار ؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته ؟ وقسم الأرزاق بحكمته ؟ في كلام كثير من آثار قدرته ذكرها لأيوب ، فقال أيوب : صغر شأني وكل لساني وعقلي ورأيي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي تعرض علي يا إلهي ، قد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت ، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية أذلقتني البلاء ، يا إلهي فتكلمت ولم أملك لساني وكان البلاء هو الذي أنطقني ، فليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخط ربي ، وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك ، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني ، وسكت حين سكت لترحمني ، كلمة زلت مني فلن أعود ، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني ، وألصقت بالتراب خدي ، أعوذ بك اليوم منك وأستجيرك من جهد البلاء فأجرني ، وأستغيث بك من عقابك فأغثني ، وأستعين بك على أمري فأعني ، وأتوكل عليك فاكفني ، وأعتصم بك فاعصمني ، وأستغفرك فاغفر لي ، فلن أعود لشيء تكرهه مني ، قال الله تعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي فقد غفرت لك ، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية ، وتكون عبرة لأهل البلاء وعزا للصابرين ، فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقرب عن أصحابك قرباناً فاستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك ، فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها ، فاغتسل ، فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء ، ثم خرج فجلس فأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالوالهة مترددة ، ثم قالت : يا عبد الله : هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ها هنا ؟ قال لها : هل تعرفينه إذا رأيتيه ؟ قالت : نعم ومالي لا أعرفه ، ثم تبسم وقال : أنا هو ، فعرفته بضحكه فاعتنقته . قال ابن عباس : فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما وولد ، فذلك قوله تعالى : { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر } واختلفوا في وقت ندائه . والسبب الذي قال لأجله : أني مسني الضر ، وفي مدة بلائه . فروى ابن شهاب ، عن أنس يرفعه أن أيوب لبث في بلائه ثماني عشرة سنة . وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين لم يزد يوماً . وقال كعب : كان أيوب في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبع أيام . وقال الحسن : مكث أيوب مطروحاً على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهراً . تختلف فيه الدواب لا يقربه أحد غير امرأته رحمة صبرت معه بصدق وتأتيه بطعام وتحمد الله معه إذا حمد ، وأيوب مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله والصبر على ابتلاه به ، فصرخ إبليس صرخة جمع بها جنوده من أقطار الأرض ، فلما اجتمعوا إليه قالوا له : ما حزبك ؟ قال : أعياني هذا العبد أيوب الذي لم أدع له مالاً ولا ولداً فلم يزد إلا صبراً ، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا يقربه إلا امرأته ، فاستعنت بكم لتعينوني عليه ، فقالوا له أين مكرك الذي أهلكت به من مضى ؟ قال : بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا علي . قالوا : نشير عليك ، من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة ؟ قال من قبل امرأته قالوا : فشأنك في أيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها ، وليس أحد يقربه غيرها ، قال : أصبتم ، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل فقال لها : أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت هو ذاك يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده ، فلما سمع مقالتها طمع أن تكون كلمة جزع فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر وأن ذلك لا ينقطع عنه أبداً ، قال الحسن : فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال : ليذبح هذه لي أيوب ويبرأ ، فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك ؟ أين المال ، أين الولد ، أين الصديق ، أين لونك الحسن ، أين جسمك الصحيح ؟ اذبح هذه السخلة واسترح . قال أيوب : أتاك عدو الله فنفخ فيك ويلك أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه ؟ قالت : الله ، قال : فكم متعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة ، قال : فمنذ كم ابتلانا ؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر ، قال : ويلك ما أنصفت ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، أمرتيني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي أتيتني به علي حرام ، و حرام علي أن أذوق شيئاً مما تأتيني به بعد إذ قلت لي هذا ، فاغربي عني ، فلا أراك فطردها فذهبت ، فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجداً لله وقال رب { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } فقيل له : ارفع رأسك فقد استجيب لك اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان ، ثم ركض برجله ركضة أخرى ، فنبعت عين أخرى ، فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج فقام صحيحاً وكسي حلة ، قال : فجعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من أهل ومال إلا وقد ضاعفه الله حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب فجعل يضمه بيده ، فأوحى الله إليه : يا أيوب ألم أغنك ؟ قال : بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها ، قال فخرج حتى جلس على مكان مشرف ، ثم إن امرأته قالت : أرأيتك إن كان أيوب طردني إلى من أكله أدعه يموت جوعاً ويضيع فتأكله السباع لأرجعن إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحالة التي كانت ، وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب ، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه ، فدعاها أيوب فقال : ما تريدين يا أمة الله ؟ فبكت وقالت : أردت ذلك المبتلي الذي كان منبوذاً على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل ، فقال أيوب : ما كان منك ؟ فبكت ، وقالت : بعلي ، قال : فهل تعرفينه إذا رأيته ؟ فقالت : وهل يخفى على أحد رآه ؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ، ثم قالت : أما أنه أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحاً ، قال فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح لإبليس ، وإني أطعت الله عصيت الشيطان ودعوت الله ، فرد على ما ترين . وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئاً اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء وكمال ، فقال لها : أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى ؟ قالت : نعم ، قال فهل تعرفيني ؟ قالت : لا قال : أنا إله الأرض ، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد الله إله السماء وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد ، فإنه عندي ثم أراها إياهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه ، قال وهب : وقد سمعت أنه إنما قال لها : لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم الله عليه لعوفي مما به من البلاء ، والله أعلم . وفي بعض الكتب : أن إبليس قال لها : اسجدي لي سجدة حتى أرد عليك المال والأولاد وأعافي زوجك ، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها وما أراها . قال لقد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم لو أن الله عافاه ليضربنها مائة جلدة ، وقال عند ذلك : مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له ، ودعائه إياها وإياي إلى الكفر ، ثم إن الله عز وجل رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء ، وخفف عليها وأراد أن يبر يمين أيوب ، فأمره أن يأخذ ضغثاً يشتمل على مائة عود صغار فيضربها به ضربة واحدة كما قال الله تعالى : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث } وروى أن إبليس اتخذ تابوتاً وجعل فيه أدوية وقعد على طريق امرأته يداوي الناس فمرت به امرأة أيوب فقالت : يا شيخ إن لي مريضاً أفتداويه قال : نعم ، والله لا أريد شيئاً إلا أن يقول إذا شفيته أنت شفيتني ، فذكرت ذلك لأيوب فقال : هو إبليس قد خدعك ، ثم حلف إن شفاه الله أن يضربها مائة جلدة . وقال وهب وغيره : كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتجيئه بقوته ، فلما طال عليه البلاء وسئمها الناس ولم يستعملها أحد التمست له يوماً من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئاً فجزت قرناً من رأسها ، فباعته رغيف فأتته به ، فقال لها : أين قرنك ؟ فأخبرته فحينئذ قال : { مسني الضر } وقال قوم : إنما قال ذلك حين قصدت الدودة إلى قلبه ولسانه فخشي أن يفتر عن الذكر والفكر . وقال حبيب بن أبي ثابت : لم يدع الله بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء أحدها : قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره فجاءا إليه ولم يبق له إلا عيناه فرأيا أمراً عظيماً فقالا : لو كان لك عند الله منزلة ما أصابك هذا . والثاني : أن امرأته طلبت طعاماً فلم تجد ما تطعمه فباعت ذؤابتها وحملت إليه طعاماً . والثالث : قول إبليس إني أداويه على أن يقول أنت شفيتني . وقيل : إن إبليس وسوس إليه أن امرأتك زنت ، فقطعت ذؤابتها فحينئذ عيل صبره ، فدعاه وحلف ليضربنها مائة جلدة . وقيل : معناه مسني الضر من شماتة الأعداء . حتى روى أنه قيل له بعد ما عوفي ما كان أشد عليك في بلائك قال : شماتة الأعداء . وقيل : قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فردها إلى موضعها . وقال كلي : فقد جعلني الله طعامك فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاساه من عض الديدان . فإن قيل : إن الله سماه صابراً وقد أظهر الشكوى والجزع ، بقوله : { أني مسني الضر } وإني مسني الشيطان بنصب قيل : ليس هذا شكاية إنما هو دعاء بدليل قوله تعالى : ( فاستجبنا له ) على أن الجزع إنما هو في الشكوى إلى الخلق فأما الشكوى إلى الله عز وجل فلا يكون جزعاً ولا ترك صبر كما قال يعقوب : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } قال سفيان بن عيينة : وكذلك من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله لا يكون ذلك جزعاً كما روي " ن جبريل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال : كيف تجدك ؟ قال : أجدني مغموماً وأجدني مكروباً ، وقال لعائشة حين قالت وارأساه ، بل أنا وارأساه "
{ 83 - 84 } { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ }
أي : واذكر عبدنا ورسولنا ، أيوب - مثنيا معظما له ، رافعا لقدره - حين ابتلاه ، ببلاء شديد ، فوجده صابرا راضيا عنه ، وذلك أن الشيطان سلط على جسده ، ابتلاء من الله ، وامتحانا فنفخ في جسده ، فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة ، واشتد به البلاء ، ومات أهله ، وذهب ماله ، فنادى ربه : رب { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
وقوله : { وأيوب } أحسن ما فيه النصب بفعل مضمر تقديره واذكر أيوب ، وفي قصص أيوب عليه السلام طول واختلاف من المفسرين ، وتلخيص ذلك أنه روي أن أيوب عليه السلام ، كان نبياً مبعوثاً إلى قوم ، وكان كثير المال من الإِبل والبقر والغنم ، وكان صاحب البثنية من أرض الشام يغمر كذلك مدة ، ثم إن الله تعالى ، لما أراد محنته وابتلاءه ، أذن لإِبليس في أن يفسد ماله ، فاستعان بذريته فأحرقوا ماله ونعمه أجمع ، فكان كلما أخبر بشيء من ذلك حمد الله تعالى وقال هي عارية استردها صاحبها والمنعم بها ، فلما رأى إبليس ذلك جاء فأخبر بعجزه عنه ، وأذن الله له في إهلاكه بنيه وقرابته ففعل ذلك أجمع ، فدام أيوب على شكره وصبره ، فأخبره إبليس بعجزه ، فأذن الله له في إِصابته في بدنه وحجر عليه لسانه وعينيه وقبله ، فجاءه إبليس وهو ساجد ، فنفخ في أنفه نفخة احترق بدنه وجعلها الله تعالى أُكلة في بدنه ، فلما عظمت وتقطع أخرجه الناس من بينهم وجعلوه على سباطة{[8253]} ولم يبق معه بشر حاشى زوجته ، ويقال كانت بنت يوسف الصديق ، وقيل اسمها رحمة ، وقيل في أيوب إنه من بني إسرائيل ، وقيل من الروم من قرية عيصو ، فكانت زوجته تسعى عليه وتأتيه يأكل وتقوم عليه ، فدام في هذا العذاب مدة طويلة قيل ثلاثين سنة ، وقيل ثماني عشرة ، وقيل اثنتي عشرة ، وقيل تسعة أعوام ، وقيل ثلاثة ، وهو في كل ذلك صابر وشاكر ، حتى جاءه فيما روي ثلاثة ممن كان آمن به فوقذوه بالقول وأنبوه ونجهوه{[8254]} . وقالوا ما صنع بك ربك هذا إلا لخبث باطنه فيك ، فراجعهم أيوب في آخر قولهم بكلام مقتضاه أنه ذليل لا يقدر على إِقامة حجة ولا بيان ظلامة ، فخاطبه الله تعالى معاتباً على هذه المقالة ومبيناً أنه لا حجة لأَحد مع الله يُسأل عما يفعل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأيوب إذ نادى ربه} يعني: دعا ربه، عز وجل، {أني مسني الضر} يعني: أصابني البلاء {وأنت أرحم الراحمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيوب يا محمد، إذ نادى ربه وقد مسه الضرّ والبلاء "رَبّ إنّي مَسّنِيَ الضّرّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِين فَاسْتَجَبْنا لَهُ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر} كقوله في آية أخرى: {واذكر عبدنا أيوب إذا نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} [ص: 41]؛ ذكر في سليمان أنه سلطه على الشيطان، وجعلهم مسخرين له، يستعملهم في كل أمر وعمل شاء. وذكر في أيوب على إثر قصة سليمان أنه سلط الشياطين عليه، وصار هو كالمسخر لهم حين قال: {إني مسني الشيطان بنصب وعذاب} حتى يعلم أن تسخير الشياطين لسليمان كان له إفضال وإنعام، لم يكن سبق منه ما يستوجب به ذلك ويستحقه، ولا كان من أيوب إليه من العصيان ما يستحق ذلك، وما أصابه من البلاء منه عدل، وكان ما يعطي من السلامة والصحة رحمة ونعمة، وله أن يعطي من شاء ما شاء، ويحرم من شاء ما شاء.
ألا ترى أنه قال في آخره لما رد عليه ما أخذ منه، وكشف عنه البلاء {رحمة}، ولو كان ذلك حقا على الله لم يكن لذكر الرحمة معنى...
ثم قوله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر} يشبه أن يكون فيه إضمار دعاء؛ كأنه قال: {إني مسني الضر} فارحمني، وعافني {وأنت أرحم الراحمين} ألا ترى أنه قال: {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر} دل أنه على الدعاء خرج.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... سئل أبو القاسم جنيد عن هذه الآية فقال: عرَّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال.
وسمعت استاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلساً غاصّاً بالفقهاء والأُدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أنّ قول أيوب {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} شكاية، وقد قال الله سبحانه {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص: 44] فقلت: ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء، بيانه قوله سبحانه {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} والإجابة تعقب الدعاء لا الاشتكاء، فاستحسنوه وارتضوه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي واذكر أيوبَ حين نادى ربَّه. وسمِّي أيوب لكثرة إيابه إلى الله في جميع أحواله في السرَّاء والضرَّاء، والشِّدَّة والرَّخاءِ. ولم يَقُلْ: ارحمني، بل حَفِظَ أدب الخطايا فقال: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. ومن علامات الولاية أن يكونَ العبدُ محفوظاً عليه وقتُه في أوانِ البلاء. ويقال إخبارُه عنه أنه قال: {مسني الضر} لم يَسْلُبْه اسمَ الصبرِ حيث أخبر عنه سبحانه بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص:44] لأنَّ الغالبَ كان من أحواله الصبر، فنادِرُ قالتِه لم يَسْلبْ عنه الغالِبَ من حالته. والإشارة من هذا إلى أنَّ الغالبَ من حال المؤمن المعرفةُ، أو الإيمانُ بالله فهو الذي يستغرقُ جميعَ أوقاته، ولا يخلو منه لحظةً؛ ونادِرُ زلاَّتِهِ- مع دائمِ إيمانِه -لا يُزَاحِمُ الوصفَ الغالب. ويقال؛ لمَّا لم يكن قوله: {مَسَّنِىَ الضُّرُّ} على وجه الاعتراض على التقدير- بل كان على وجه إظهار العجز- فلم يكن ذلك مُنافياً لصفة الصبر. ويقال: استخرج منه هذا القولَ ليكونَ فيه مُتنفسٌ للضعفاء في هذه الأمة حتى إذا ضَجَّوا في حالِ البلاء لم يكن ذلك منافياً لصفة الصبر...
{أني مسني الضر} فقال تعالى: {فكشفنا ما به من ضر} [الأنبياء:84] والفاء تقتضي التعقيب، فكأنه قال: فعافيناه في الوقت. وكأنه قال: يا أيوب، لو طلبتَ العافيةَ قبل هذا لاستَجْبْنَا لك.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
فإن قال قائل: أليس أن الله تعالى سماه صابرا، وقد ترك الصبر حين دعا؟ قلنا: لا، لم يترك الصبر، فإن ترك الصبر بإظهار الشكوى إلى الخلق، فأما بإظهارها إلى الله تعالى فلا يكون تركا للصبر. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: إذا أظهر الشكوى إلى الخلق، وهو راض بقضاء الله، فإنه لا يكون تاركا للصبر أيضا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والضر -بالفتح -: الضرر في كل شيء، وبالضم: الضرر في النفس من مرض وهزال، فرق بين البناءين لافتراق المعنيين. ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب.
اعلم أن في أمر أيوب عليه السلام وما ذكره الله تعالى من شأنه ههنا وفي غيره من القرآن من العبر والدلائل ما ليس في غيره، لأنه تعالى مع عظيم فضله أنزل به من المرض العظيم ما أنزله مما كان عبرة له ولغيره ولسائر من سمع بذلك وتعريفا لهم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله تعالى ويصبر على حالتي الضراء والسراء...
أما قوله: {وأنت أرحم الرحمين} فالدليل على أنه سبحانه: {أرحم الرحمين} أمور: أحدها: أن كل من رحم غيره فإما أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفعا للرقة الجنسية عن الطبع، وحينئذ يكون مطلوب ذلك الراحم منفعة نفسه، أما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير وجه من هذه الوجوه، ومن غير أن يعود إليه من تلك الرحمة زيادة ولا نقصان من الثناء ومن صفات الكمال، فكان سبحانه أرحم الراحمين. وثانيها: أن كل من يرحم غيره فلا يكون ذلك إلا بمعونة رحمة الله تعالى لأن من أعطى غيره طعاما أو ثوبا أو دفع عنه بلاء، فلولا أنه سبحانه خلق المطعوم والملبوس والأدوية والأغذية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء، ثم بعد وصول تلك العطية إليه، فلولا أنه سبحانه جعله سببا للراحة لما حصل النفع بذلك، فإذا رحمة العباد مسبوقة برحمة الله تعالى وملحوقة برحمته بل رحمتهم فيما بين الطرفين كالقطرة في البحر، فوجب أن يكون تعالى هو أرحم الراحمين. وثالثها: أن الله تعالى لو لم يخلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور ذلك الفعل عنه، فكان الراحم هو الحق سبحانه، من حيث إنه هو الذي أنشأ تلك الداعية، فثبت أنه أرحم الراحمين.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والألف واللام في {الضر} للجنس تعم {الضر} في البدن والأهل والمال.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملق له، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين. والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره. ومتى وجد المبتلى هذا كشف عنه بلواه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل" وفي الحديث الآخر: "يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه". وقد كان نبي الله أيوب، عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن نجيء إلى الابتلاء بالضراء في قصة أيوب عليه السلام: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر، وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم، رحمة من عندنا وذكرى للعابدين).. وقصة ابتلاء أيوب من أروع قصص الابتلاء. والنصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل. وهي في هذا الموضع تعرض دعاء أيوب واستجابة الله للدعاء. لأن السياق سياق رحمة الله بأنبيائه، ورعايته لهم في الابتلاء. سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم وإيذائهم، كما في قصص إبراهيم ولوط ونوح. أو بالنعمة في قصة داود وسليمان. أو بالضر كما في حال أيوب.. وأيوب هنا في دعائه لا يزيد على وصف حاله: (أني مسني الضر).. ووصف ربه بصفته: (وأنت أرحم الراحمين). ثم لا يدعو بتغيير حاله، صبرا على بلائه، ولا يقترح شيئا على ربه، تأدبا معه وتوقيرا. فهو نموذج للعبد الصابر لا يضيق صدره بالبلاء، ولا يتململ من الضر الذي تضرب به الأمثال في جميع الأعصار. بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه، فيدع الأمر كله إليه، اطمئنانا إلى علمه بالحال وغناه عن السؤال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمسّ: الإصابة الخفيفة. والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله إذ جعل ما حلّ به من الضر كالمس الخفيف.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتحدّث الآيتان عن نبي آخر من أنبياء الله العظماء وقصّته المُلهمة، وهو «أيّوب» وهو عاشر نبي أشير إلى جانب من حياته في سورة الأنبياء.
إنّ لأيّوب قصّة حزينة، وهي في نفس الوقت عظيمة سامية، فقد كان صبره وتحمّله عجيبين، خاصّةً أمام الحوادث المرّة، بحيث أنّ صبر أيّوب أصبح مضرباً للمثل منذ القدم.
غير أنّ هاتين الآيتين تشيران بصورة خاصّة إلى مرحلة نجاته وانتصاره على المصاعب، واستعادة ما فقده من المواهب، ليكون درساً لكلّ المؤمنين على مرّ الدهور ليغوصوا في المشاكل ويخترقوها، ولا سيّما لمؤمني مكّة الذين كانوا يُعانون ضغوطاً من أعدائهم عند نزول هذه الآيات، فتقول: (وأيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين).
وكلمة «الضرّ». تطلق على كلّ سوء وأذى يصيب روح الإنسان أو جسمه، وكذلك لنقص عضو، وذهاب مال، وموت الأعزّة وانهيار الشخصيّة وأمثال ذلك، وكما سنقول فيما بعد، فإنّ أيّوب قد ابتلي بكثير من هذه المصائب.
إنّ أيّوب كسائر الأنبياء يُظهر أقصى حالات الأدب والخضوع أمام الله عند الدعاء لرفع هذه المشاكل المضنية المجهدة، ولا يعبّر بتعبير تُشمّ منه رائحة الشكوى، بل يقول فقط: إنّي ابتليت بهذه المصائب وأنت أرحم الراحمين، فهو حتّى لا يقول: حلّ مشكلتي، لأنّه يعلم أنّه جليل عظيم، وهو يعرف حقّ العظمة.