السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّـٰحِمِينَ} (83)

القصة السادسة : قصة أيوب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى : { وأيوب } أي : واذكر أيوب ويبدل منه { إذ نادى ربه } قال وهب بن منبه : كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب بن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ، وكانت أمّه من ولد لوط بن هاران ، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا . وكانت له الثنية من أرض البلقاء من أعمال حوران من أرض الشام كلها سهلها وجبلها ، وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم ، والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدّة والكثرة . وكان له خمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وعبد وولد ومال ، ويحمل آلة كل فدّان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاث أو أربع أو خمس وفوق ذلك .

وكان الله تعالى قد أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء ، وكان برّاً تقياً رحيماً بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل ، ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل ، وكان شاكراً لأنعم الله مؤدياً لحق الله تعالى قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرّة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا .

وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه رجل من اليمن يقال له اليفن ، ورجلان من بلده يقال لأحدهما بلدد ، والآخر صابر ، وكانوا كهولاً ، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السماوات ، وكان يقف فيهنّ حيثما أراد حتى رفع الله تعالى عيسى عليه السلام ، فحجب من أربع ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم عن السماوات كلها إلا من استرق السمع ، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب عليه السلام ، وذلك حين ذكره الله تعالى وأثنى عليه ، فأدركه البغي والحسد ، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه ، فقال : إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب ، فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ، ولخرج من طاعتك ؛ قال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله ، فانقض عدو الله إبليس حتى وقع على الأرض ، ثم جمع عفاريت الجنّ ومردة الشياطين وقال لهم : ماذا عندكم من القوّة ، فإني قد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة ، والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال ، فقال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار ، وأحرقت كل شيء آتى عليه ؛ قال إبليس : فأت الإبل ورعاتها ، فأتى الإبل ، وقد وضعت رؤوسها ورعت في مراعيها ، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق ، فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها .

ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قبيحة على قعود إلى أيوب ، فوجده قائماً يصلي فقال : يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك ، فأحرقتها ومن فيها غيري ، فقال أيوب : الحمد لله الذي أعطانيها ، وهو أخذها وإنها مال الله أعارنيها ، وهو أولى بها إذا شاء تركها ، وإذا شاء نزعها ، وقديماً كنت وطنت نفسي ومالي على الفناء ؛ قال إبليس : فإن الله ربك أرسل عليها ناراً من السماء ، فاحترقت ، فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها ؛ منهم من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان أيوب إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه ، ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ليشمت به عدوّه ويفجع صديقه ، فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني ، وحين نزع مني عرياناً خرجت من بطن أمي ، وعرياناً أعود في التراب ، وعرياناً أحشر إلى الله عز وجل ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعطاك الله وتجزع حين قبض الله على عاريته الله أولى بك وبما أعطاك ، ولو علم الله تعالى فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح ، وصرت شهيداً ، ولكنه علم منك شرّاً ، فأخرجك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً ، فقال لهم : ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلم قلبه ؟ قال عفريت : عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه ؛ قال إبليس : فأت الغنم ورعاتها ، فانطلق حتى توسطها ، ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتاً من عند آخرها ، وماتت رعاتها .

ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي فقال له مثل القول الأول ، فردّ عليه أيوب مثل الردّ الأوّل ، ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال : ماذا عندكم من القوّة ، فإني لم أكلم قلب أيوب ، فقال عفريت : عندي من القوّة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً تنسف كل شيء تأتي عليه ، قال : فأتِ الفدادين والحرث ، فانطلق حين شرع الفدادون في الحرث والزرع ، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن .

ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي ، فقال له مثل قوله الأوّل ، فردّ عليه أيوب مثل ردّه الأوّل ، وجعل إبليس يهلك أمواله مالاً مالاً حتى مرّ على آخره كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله تعالى ، وأحسن الثناء عليه ورضي عنه بالقضاء ، ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال ، فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعاً حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال : إلهي إنّ أيوب يرى أنك ما متعته بولده ، فأنت تعطيه المال ، فهل أنت مسلطي على ولده ، فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال .

قال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ولده ، فانقض عدوّ الله إبليس حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم ، فلم يزل يزلزله بهم حتى تداعى من قواعده وجعل جدره يضرب بعضها بعضاً ، ويرميهم بالخشب والحجارة حتى مثل بهم كل مثلة ورفع القصر فقلبه ، فصاروا منكبين وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه ، فأخبره وقال : لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكبين على رؤوسهم تسيل دماؤهم ، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك ، فلم يزل يقول : هذا أو نحوه حتى رق قلب أيوب وبكى ، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال : ليت أمّي لم تلدني ، فاغتنم إبليس ذلك ، فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً به ، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر ، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته ، فسبقت توبته إلى الله عزّ وجلّ ، وهو أعلم ، فوقف إبليس خاسئاً ذليلاً .

وقال : إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه ، فإنك تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده ، فقال الله عزّ وجلّ : انطلق فقد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله ، وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة لأيوب ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعالمين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب ، فانقض عدوّ الله سريعاً فوجد أيوب في مصلاه ساجداً ، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه ، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها سائر جسده ، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم ، ووقعت فيه حكة ، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة ، فلم يزل يحكها حتى بقل لحمه ، وتقطع وتغير وأنتن ، وأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة ، وجعلوا له عريشاً فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته ، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه ، ولما رأى الثلاثة من أصحابه وهم اليفن وبلدد وصابر ما ابتلاه الله تعالى به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه ، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه ، فبكتوه ولاموه ، وقالوا له : تب إلى الله تعالى من الذنب الذي عوقبت عليه ، قال وحضره معهم فتى حديث السنّ قد آمن به وصدّقه فقال لهم : إنكم تكلمتم أيها الكهول ، وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ، ولكنكم تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم ، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم ، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ؛ ألم تعلموا أنه أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئاً من أمره منذ ما آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا أنه نزع شيئاً منه من الكرامة التي أكرمه بها ، ولا أنّ أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا ، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصدِّيقين والشهداء والصالحين ، وليس بلاؤه لأولئك على سخطه عليهم ، ولا لهوانه لهم ، ولكنها كرامة وخبرة لهم ، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ، ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين ، ولكنه يرحمه ويبكي معه ، ويستغفر له ، ويحزن لحزنه ويدله على أرشد أمره ، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا ، فالله الله أيها الكهول ، فقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ، ويكسر قلوبكم ، ألم تعلموا أنّ لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عيّ ، ولا بكم ، وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم ، واقشعرّت جلودهم ، وانكسرت قلوبهم ، وطاشت عقولهم إعظاماً لله وإجلالاً له ، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين ، وإنهم لأبرار براء ، ومع المقصرين المفرطين ، وإنهم لأكياس أقوياء .

فقال أيوب : إنّ الله سبحانه وتعالى يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير ، فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله تعالى على اللسان ، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ، ولا طول التجربة ، وإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء ، وهم يرون عليه من الله تعالى نور الكرامة ، ثم أعرض عنهم أيوب عليه السلام يعني الثلاثة وقال : أتيتموني غضاباً رهبتم قبل أن تسترهبوا ، وبكيتم قبل أن تضربوا ، فكيف بي لو قلت تصدقوا عليَّ بأموالكم لعل الله أن يخلصني ، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبله ويرضى عني ، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم ، وظننتم أنكم عوضتم بإحسانكم ، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ، ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوباً قد سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم ، وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي ، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام ، وأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي ، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستعيناً به مستغفراً متضرّعاً إليه .

فقال : يا رب لأيّ شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت ، فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني ، فألحقتني بآبائي ، فالموت كان أجمل بي ؛ ألم أكن للغريب داراً وللمسلمين قراراً ، ولليتيم ولياً ، وللأرملة قيماً ؛ إلهي أنا عبدك إن أحسنت إليّ فالمنّ لك ، وإن أسأت فبيدك عقوبتي ؛ جعلتني للبلاء غرضاً وللفتنة نصباً ، وقد وقع بي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله ، فكيف يحمله ضعفي ، فإن قضاءك هو الذي أذلني ، وإنّ سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي ، فأدلي بعذري ، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ، ولكنه ألقاني وتعالى عني ، فهو يراني ولا أراه ، ويسمعني ولا أسمعه ، فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب .

ثم نودي : يا أيوب إنّ الله تعالى يقول : ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً ، قم فأدل بعذرك وتكلم بحجتك ، وخاصم عن نفسك ، واشدد أزرك ، وقم مقام جبار يخاصم جباراً إن استطعت ، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ؛ لقد منتك نفسك يا أيوب أمراً ما بلغ مثله قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها ؟ هل كنت معي تمدّ بأطرافها ؟ هل أنت علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي : شيء وضعت أكنافها ؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء ؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ، ولا يقلها دعم من تحتها ؟ هل تبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها ، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ؟ أين أنت مني يوم أنبعت الأنهار ، وسكرت البحار ؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حتى بلغت مدتها ؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال ؟ هل تدري على أيّ شيء أرسيتها ، أم بأيّ مثقال وزنتها ؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها ؟ أم هل تدري أين الماء الذي أنزلت من السماء ؟ أم هل تدري من أيّ شيء أنشئ السحاب ؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج ؟ أم أين جبال البرد ؟ أم أين خزانة الليل بالنهار ، وخزانة النهار بالليل ؟ وأين خزانة الريح ؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ؟ من جعل العقول في أجواف الرجال ؟ ومن شق الأسماع والأبصار ؟ ومن دانت الملائكة لملكه ، وقهر الجبارين بجبروته ، وقسم الأرزاق بحكمته ؟ في كلام كثير يدل على كمال قدرته ذكرها لأيوب .

فقال أيوب عليه الصلاة والسلام : كلّ شأنيّ وكلّ لساني وكل عقلي ورأيي وضعفت قوّتي عن هذا الأمر الذي تعرض لي يا إلهي ، قد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يدك ، وتدبير حكمتك ، وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت ، لا يعجز عنك شيء ، ولا تخفى عليك خافية ؛ أذلني البلاء يا إلهي ، فتكلمت فكان البلاء هو الذي أنطقني ، فليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها ، ولم أتكلم بشيء يسخط ربي وليتني مت بغمي في أشدّ بلائي قبل ذلك ، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني وسكت حين سكت لترحمني كلمة زلت مني فلم أعد قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني ، وألصقت بالتراب خدي أعوذ بك اليوم منك وأستجير بك من جهد البلاء ، فأجرني ، وأستغيث بك من عقابك فأغثني ، وأستعين بك على أمري فأعني ، وأتوكل عليك فاكفني ، وأعتصم بك فاعصمني ، وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني .

قال الله تعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي ، فقد غفرت لك .

فقال أيوب : { أني } قد { مسّني الضّرّ } بتسليطك الشيطان عليَّ في بدني وأهلي ومالي ، وقد طمع الآن في ديني وذلك أنه زين لامرأة أيوب أن تأمره أن يذبح لصنم فإنه يبرأ ثم يتوب ، ففطن لذلك ، وحلف ليضربنها إن برأ مائة جلدة ، وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين ، وروي عن أنس يرفعه «أنّ أيوب لبث ببلائه ثمان عشرة سنة » ، وقال كعب سبع سنين ، وقال الحسن : مكث أيوب مطروحاً على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وشهراً يختلفون في الدواء ولا يقربه أحد غير امرأته رحمة صبرت معه تحمد الله معه إذا حمد وأيوب مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله تعالى والصبر على بلائه ، فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئاً اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء وكمال ، فقال لها : أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى ؛ قالت : نعم ، قال : هل تعرفيني قالت : لا فقال لها أنا إله الأرض ، وأنا الذي صنعت بصاحبك لأنه أطاع إله السماء ، وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان من مال وولد ، وأراها إياهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه ؛ قال وهب : وقد سمعت أنه إنما قال لها : لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم عليه لعوفي مما به من البلاء ، وفي بعض الكتب أن إبليس قال لها : اسجدي لي سجدة حتى أرد عليك المال والأولاد وأعافي زوجك فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها ، وما أراها قال : لقد أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم أن الله عافاه ليضربنها مائة جلدة ، وعند ذلك قال : مسني الضرّ من طمع إبليس في سجود حرمتي ودعائه إياها وإياي إلى الكفر { وأنت } أي : والحال أنت { أرحم الراحمين } فافعل بي ما يفعل الرحمن بالمضرور ، وهذا تعريض بسؤال الرحمة حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ، ولم يصرّح فكان ذلك ألطف في السؤال ، فهو أجدر بالنوال .

ويحكى أنّ عجوزاً تعرّضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا ، فقال لها : ألطفت في السؤال لا جرم لأردّنّها تثب وثب الفهود ، وملأ بيتها حباً ، ثم إنّ الله تعالى رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عليها ، وأراد أن يبر يمين أيوب فأمره أن يأخذ ضغثاً يشتمل على مائة عود صغار ، فيضربها به ضربة واحدة كما قال الله تعالى في آية أخرى : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث } [ ص ، 44 ] .

وروي أنّ إبليس اتخذ تابوتاً وجعل فيه أدوية وجلس على طريق امرأة أيوب يداوي الناس فمرت به امرأة أيوب ، فقالت : إنّ لي مريضاً أفتداويه قال : نعم ولا أريد شيئاً إلا أن يقول إذا شفيته : أنت شفيتني ، فذكرت ذلك لأيوب فقال : هو إبليس قد خدعك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة ، وقال وهب وغيره : كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتجيئه بقوته ، فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلا يستعملها أحد ، فالتمست له يوماً من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئاً ، فجزت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته به ، فقال لها : أين قرنك ، فأخبرته فحينئذٍ قال : مسني الضرّ ، وقال قوم : إنما قال ذلك حين قصد الدود إلى قلبه ولسانه ، فخشي أن يمتنع عن الذكر والفكر ، وقال حبيب بن أبي ثابت : لم يدع الله تعالى بالكشف حتى ظهرت له ثلاثة أشياء .

أحدها : قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره ، فجاءا إليه ولم تبق إلا عيناه ، ورأيا أمراً عظيماً فقالا : لو كان عند الله لك منزلة ما أصابك هذا .

والثاني : أنّ امرأته طلبت طعاماً . فلم تجد ما تطعمه ، فباعت ذؤابتها ، وحملت إليه طعاماً .

والثالث : قول إبليس إني أداويه على أن يقول : أنت شفيتني ، وقيل : إن إبليس وسوس إليه أن امرأته زنت ، فقطعت ذؤابتها فحينئذٍ عيل صبره ، وحلف ليضربنها مائة جلدة ، وقيل معناه مسني الضرّ من شماتة الأعداء ، وقيل : قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فردّها إلى موضعها ، وقال : كلي جعلني الله طعامك ، فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عض الديدان فإن قيل : إن الله تعالى سماه صابراً ، وقد أظهر الشكوى والجزع بقوله : أني مسني الضرّ ، ومسني الشيطان بنصب ؟ أجيب : بأن هذا ليس بشكاية إنما هو دعاء بدليل قوله تعالى : { فاستجبنا له } .