بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{۞وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّـٰحِمِينَ} (83)

قوله عز وجل : { وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ } ، يعني : اذكر أيوب عليه السلام روي في الخبر أن أيوب كان بمنزلة الملك ، وهو أيوب بن مرضي النبي عليه السلام وكانت له أموال من صنوف مختلفة ، وكانت له ضياع كثيرة ، وكان له ثلاثمائة زوج ثيران ، وغلمان يعملون له في ضياعه ، وأموال السوائم من الغنم والإبل والبقر ، وكان متعبداً ناسكاً منفقاً متصدقاً ، فحسده إبليس عدو الله وقال : إن هذا يذهب بالدنيا والآخرة . وأراد أن يفسد عليه إحدى الدارين أو كلتيهما ، فسأل الله تعالى وقال : إن عبدك أيوب يعبدك ، لأنك أعطيته السعة في الدنيا ، ولولا ذلك لم يعبدك قال الله تعالى : إني أعلم منه أنه يعبدني ويشكرني ، وإن لم يكن له سعة في الدنيا .

فقال : يا رب سلطني عليه . فسلطه على كل شيء منه إلا على روحه .

وجاء إبليس إلى غنمه كهيئة النار ، وضرب عليها فأهلك جميع غنمه ، فجاءت رعاته فأخبروه بالقصة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وقال : هو الذي أعطى وهو الذي أخذ ، وهو أحق به . ويقال : إنه أحرق غنمه ورعاته ، فجاء إبليس على هيئة راع من رعاته فأخبره بذلك ، فقال له أيوب : لو كان فيك خير لهلكت مع أصحابك . ثم جاء إلى إبله وبقره ففعل مثل ذلك ، ثم جاء إلى زرعه كهيئة النار فأفسد جميع زرعه ، فأخبر بذلك ، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ، وقال : هو الذي أعطى وهو الذي أخذ ، وهو أحق به .

وكان له سبعة بنين وثلاث بنات ؛ ويقال : سبعة بنين وسبع بنات في بيت ، فجاء إبليس عليه اللعنة فهدم البيت عليهم فماتوا كلهم ، فذكر ذلك لأيوب فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه على ذلك ، ولم يجزع وقال : هو الذي أعطى ثم أخذ . ثم جاء إلى أيوب وهو في الصلاة ، فلما سجد نفخ في أنفه وفمه نفخة ، فانتفخ أيوب عليه السلام وخرجت به قروح ، وجعل تسيل منها الصديد ، وتفرق عنه أقرباؤه وأصدقاؤه ، ولم يبق معه إلا امرأته .

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : كان اسم امرأته ماحين بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب ، ويقال : كان اسمها رحمة . فتأذى به جيرانه ، وقالوا لامرأته : احمليه من هاهنا ، فإنا نتأذى به . فحملته حتى أخرجته إلى كناسة قوم ، ووضعته عليها ، وجعلت تدخل على الناس وتخدمهم ، وتأخذ شيئاً وتنفقه عليه . فكان ذلك البلاء ما شاء الله ، فجاء إبليس في صورة طبيب ، وقال للمرأة : إن أردت أن يبرأ من علته ، فمريه يشرب الخمر ، ويتكلم بكلمة الكفر . فأخبرته المرأة بذلك ، فقال لها : ذلك إبليس الذي أمرك بهذا ، فألحَّت عليه ، فغضب وقال : والله لئن برئت ، لأضربنك مائة سوط . فقالت : متى تبرأ ؟ فقال عند ذلك : ربِّ { أَنّى مَسَّنِىَ الضر } .

ويقال : إنه اشتهى شيئاً يتخذ بالسمن ، فدخلت امرأته على امرأة غني من الأغنياء وسألتها ذلك ، فأبت عليها ؛ ثم نظرت إلى ذوائبها ، فرأت ذوائبها مثل الحبل ، فقالت : لئن دفعت إليّ ذوائبك ، دفعت إليك ما تطلبين مني . فدفعت بالمقراض وقطعت ذوائبها ودفعتها إليها ، وأخذت منها ما سألت ، وجاءت به إلى أيوب فقال لها : من أين لك هذا ؟ فأخبرته بالقصة ، فبكى أيوب عند ذلك ، وقال : رَبِّ { أَنّى مَسَّنِىَ الضر } .

قال بعضهم : مكث أيوب في بلائه سبع سنين ، وقال بعضهم : عشر سنين ، وروى بعضهم ، عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« إنَّ أيُّوبَ نَبِيَّ الله لَبِثَ فِي بَلاَئِهِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً ، فَرَفَضَهُ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ ، إلاَّ رَجُلَيْنِ مِنْ إخْوَانِهِ كَانا يَعُودَانِهِ وَيَغْدُوانِ إلَيْهِ وَيَرُوحَانِ ، فَقَالَ أحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : وَالله لَقَدْ أذْنَبَ أيُّوبُ ذَنْباً مَا أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ . فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : وما ذلك ؟ قالَ لَهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ الله تَعَالَى ، فَيَكْشِف ما بِهِ . ثُمَّ رَاحَا إلَيْهِ فَلَمْ يَصْبِرَا ، حَتَّى ذَكَرا ذلكَ لَهُ ، فَعِنْدَ ذلكَ قالَ : ربِّ { مَسَّنِىَ الضر } » . قال : فلما كان ذات يوم ، خرجت امرأته ، فأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام في مكانه أن { اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ ص : 42 ] فشرب واغتسل ، فأذهب الله عز وجل ما به من البلاء ، فقال أيوب : كان الركض برجلي أشد علي من البلاء الذي كنت فيه . قال ابن عباس : لما قال الله تعالى له : { اركض بِرِجْلِكَ } ففعل ، فانفجرت عين اغتسل منها فصح جسده . ثم قيل له : اركض برجلك ففعل ، فخرجت عين فشرب منها ، فالتأم ما في جوفه . فلما رجعت إليه المرأة ، لم تعرفه ، فقالت له : بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله المبتلى ؟ فوالله ما رأيت أحداً أشبه به منك إذ كان صحيحاً . قال : فإني أيوب . قال : وكان له آنذاك أندر للقمح وأندر للشعير ، فبعث الله سحابتين : إحداهما على أندر القمح فأفرغت الذهب حتى فاض ، وأفرغت الأُخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض ؛ ذلك قوله تعالى : { إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضر } ، أصابني البلاء والشدة { وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } فعرض ولم يفصل بالدعاء .