النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{۞وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّـٰحِمِينَ} (83)

قوله تعالى : { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي } الآية . حكى الحسن البصري : أن أيوب آتاه الله مالاً وولداً ، فهلك ماله ، ومات أولاده ، فقال : ربِّ قد أَحْسَنْتَ إِليَّ الإِحسانَ كُلَّه ، كنتُ قبل اليوم شَغَلَنِي حُبُّ المالِ بالنهارِ ، وشَغَلَنِي حُبُّ الولدِ بالليلِ ، فالآن أُفَرِغُ لك سمعي وبصري وليلي ونهاري بالحمد والذكر فلم ينفذ لإِبليس فيه مكر ، ولا قدر له على فتنة ، فَبُلِي في بَدَنِهِ حتى قرح وسعى فيه الدود ، واشتد به البلاء حتى طرح على مزبلة بني إسرائيل ، ولم يبق أحد يدنو منه غير زوجته صبرت معه ، تتصدق وتطعمه ، وقد كان آمن به ثلاثة من قومه ، رفضوا{[1986]} عند بلائه ، وأيوب يزداد حمداً لله وذكراً ، وإبليس يجتهد في افتتانه فلا يصل إليه حتى شاور أصحابه ، فقالوا : أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته ؟ قال : من قبل امرأته ، فقالوا شأنك أيوب من قبل امرأته ، قال : أصبتم فأتاها فذكر لها ضر أيوب بعد جماله وماله وولده ، فصرخت ، فطمع عدو الله فيها ، فأتاها بسخلة ، فقال ليذبح أيوب هذه السخلة لي ويبرأ ، فجاءت إلى أيوب فصرخت وقالت يا أيوب حتى متى يعذبك ربك ولا يرحمك ؟ أين المال ؟ أين الولد ؟ أين لونك الحسن ؟ قد بلى ، وقد تردد{[1987]} الدواب ، اذبح هذه السخلة واسترح . قال لها أيوب أتاك عدو الله فنفخ فيك فوجد فيك رفقاً فأجبتيه ؟ أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والشباب والصحة من أعطانيه ؟ فقالت : الله ، قال : فكم متّعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة ، قال : منذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء ؟ فقالت : منذ سبع سنين وأشهر . قال : ويلك والله ما أنصفت ربك ، ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء ثمانين سنة ، والله لئن شفاني الله لأجلدنّك مائة جلدة ، ثم طردها وقال : ما تأتيني به عليَّ حرام إن أكلته ، فيئس إبليس من فتنته .

ثم بقي أيوب وحيداً فخر ساجداً وقال : ربِّ ،

{ مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأنتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وفيه خمسة أوجه :

أحدها : أن الضر المرض ، قاله قتادة .

الثاني : أنه البلاء الذي في جسده ، قاله السدّي ، حتى قيل إن الدودة كانت تقع من جسده فيردها في مكانها ويقول : كلي مما رزقك الله .

الثالث : أنه الشيطان كما قال في موضع آخر

{ أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بنُصُبٍ وَعَذَابٍ }

[ ص : 41 ] قاله الحسن .

الرابع : أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض ، فقال : مسني الضر ، إخباراً عن حاله ، لا شكوى لبلائه ، رواه أنس مرفوعاً .

الخامس : أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوماً فخاف هجران ربه ، فقال : مسني الضر ، وهذا قول جعفر الصادق رحمه الله .

وفي مخرج قوله : { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } أربعة أوجه :

أحدها : أنه خارج مخرج الاستفهام ، وتقديره : أيمسني الضر وأنت أرحم الراحمين .

الثاني : أنت أرحم بي أن يمسني الضر .

الثالث : أنه قال [ ذلك ] استقالة من ذنبه ورغبة إلى ربه .

الرابع : أنه شكا ضعفه وضره استعطافاً لرحمته ، فكشف بلاءه فقيل له :

{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ }

[ ص : 42 ] فركض برجله فنبعت عين ، فاغتسل منها [ وشرب ] فذهب باطن دائه وعاد إليه شبابه وجماله ، وقام صحيحاً ، وضاعف الله له ما كان من أهل ومال وولده .

ثم إن امرأته قالت : إن طردني فإلى من أكلِه ؟ فَرَجَعَتْ فلم تَرَهُ ، فجعلت تطوف وتبكي ، وأيوب يراها وتراه فلا تعرفه فلما سألته عنه وكلمته فعرفته ، ثم إن الله رحمها لصبرها معه على البلاء ، فأمره أن يضربها بضِغث ليبّر في يمينه ، قاله ابن عباس . وكانت امرأته ماخيرا بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب .


[1986]:رفضوا: هكذا بالأصل ولعل الصواب رفضوه.
[1987]:هكذا بالأصل ولم أجد لها وجها.