الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{۞وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّـٰحِمِينَ} (83)

ثم قال تعالى : { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر }[ 82 ] . أي : واذكر يا محمد أيوب حين نادى ربه ، وقد مسه الضر والبلاء . رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له دعاءه فكشفنا{[46204]} ما به من ضر . ويروى أنه ما نادى إلا بعد تسع سنين ، وكان الضر الذي نزل به اختبارا من الله تعالى له ، وامتحانا . وكان الله قد وسع عليه في دنياه ، وأعطاه ولدا وأهلا ، فاختبره الله بهلاك ماله فشكر وعلم أنه من عند الله . ثم ابتلاه بذهاب أهله وولده فصبر وشكر ، ثم ابتلاه بالبلاء في جسمه ، فتناثر{[46205]} لحمه ، وتذود جسمه وعظم عليه البلاء حتى أخرجه أهل بلده من قريتهم ، ورموه على تل من الأرض خارج القرية وكان إبليس في خلال تلك المحن يتصور له{[46206]} ويستفزه أن يكفر بنعم الله أو يغضب لما حل عليه ، ولم يجد فيه إحالة عن شكره وذكره ، ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له ، وإبليس اللعين يتلطف أن يستفز أحدهما{[46207]} بزلة أو كفر ، فلم يقدر على ذلك .

قال وهب بن منبه : فبلغني أنها التمست له يوما من الأيام ما تطعمه ، فما وجدت شيئا حتى جزت قرنا من رأسها فباغته برغيف{[46208]} فأتته فعشته إياه . قال وهب : فلبث في ذلك البلاء ثلاث سنين .

وقال الحسن البصري : مكث في ذلك البلاء تسع سنين وستة أشهر ملقى على{[46209]} رماد في جانب القرية ، فلما اشتد بلاؤه وعظمت مصيبته{[46210]} أراد الله تعالى أن يفرج عنه ، فقيل له : يا أيوب ، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقد{[46211]} وهبت لك أهلك ومثلهم معهم وولدك ، ومثلهم معهم ، وعمرك ومثله معه ، لتكون لمن خلفك آية ، وتكون عبرة لأهل البلاء ، وعزاء للصابرين . فركض برجله ، وانفرجت له عين فدخل فيها فاغتسل . فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء ، ثم خرج وجلس ، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه ، فلم تجده ، وقامت كالواهلة ملتدمة ، ثم قالت : يا عبد الله ، هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ها هنا ؟ قال : لا ، ثم تبسم فعرفته واعتنقته .

قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ، ما فارقته من عناقه حتى موجها كل مال لهما وولد .

ويروى أن الله جل ذكره رد عليه أهله ومثلهم معهم ، وأمطر عليه فراشا من ذهب ، فجمع حتى ملأ كل ما أراد ، وأقبل يشحن في ثيابه فأوحى الله إليه ، أما يكفيك ما جمعت حتى تشحن في قميصك ؟ فقال أيوب : وما يشبع من خيرك ؟

ويروى أن إبليس اللعين تمثل لامرأة أيوب صلى الله عليه وسلم في هيئة شريفة ومركب له هيبة ، وقال [ لها ]{[46212]} :

أنت صاحبة أيوب المبتلى ؟ فقالت : نعم . قال : هل تعرفينني ؟ قالت : لا . فقال : أنا إله الأرض ، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني . ولو سجد لي سجدة واحدة لرددت عليك وعليه كل ما كان لكما من مال وولد . ثم مثل لها أباهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه وقال إن صاحبك أكل طعاما ولم يسمنى عليه{[46213]} لعوفي مما به من البلاء ، فرجعت امرأة أيوب إليه ، فأخبرته بما قال لها وما أراها فقال لها أيوب ، قد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك . ثم أقسم أن الله عافاه{[46214]} ليضربنها مائة ضربة .

قال ابن عباس : لما ابتلاه الله بما ابتلاه [ ولم يشأ ]{[46215]} الدعاء في أن يكشف عنه ما به من ضر ، غير أنه كان يذكر الله كثيرا ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان ، فلما انتهى الكتاب أجله أذن له في الدعاء فدعا ، فكشف ما به ، ورد عليه مثل أهله وماله الذين ذهبوا ، ولم يرد عليه الذي هلك ، لكن وعده أن يوليه إياهم في الآخرة ، قال مجاهد . قال : خُيِّرَ أيوب أن يرد عليه أهله ومثلهم معهم في الدنيا ، أو يعطى في الدنيا مثل أهله ، ويرد عليه في الآخرة أهله ، فاختار أن يردوا عليه في الآخرة ويعطى في الدنيا مثلهم ، وقاله ابن عباس{[46216]} .

وقال الحسن{[46217]} : رد عليه ماله الذي ذهب ومثلهم معهم من النسل .


[46204]:ز: فكسفت.
[46205]:ز: فتناثرت.
[46206]:له سقطت من ز.
[46207]:ز: أحدا منهما.
[46208]:ز: رغيفة.
[46209]:ز: في.
[46210]:ز: قصته.
[46211]:من هنا إلى قوله: (من قبلي في ص 325 س 4، ساقط من ع. وزدته من ز.
[46212]:ز: له والصواب ما أثبتناه.
[46213]:هنا سَقْط في ز والسياق يقتضي أن يقول. (ولو سماني عليه لعوفي).
[46214]:ز: عرفناه. والصواب ما أثبتناه في النص.
[46215]:ز: أنشأ. ولعل الصواب ما أثبتناه.
[46216]:انظر: الدر المنثور 4/328.
[46217]:انظر: المصدر السابق.