غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّـٰحِمِينَ} (83)

51

ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه السلام وصبره على بلائه حتى صار مثلاً . عن وهب بن منبه أنه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط اصطفاه الله وجعله نبياً ، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل . وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين أخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا صلى الله عليه وسلم حجب عن جميع السموات إلا من استرق السمع . قال : فسمع إبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال : يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء ، وأنا زعيم إن ضربته بالبلاء ليكفرن بك . فقال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله . فجمع إبليس عفاريت الجن وقال لهم : ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب . فقال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس : فأت الإبل ورعاتها . فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض ، إعصار لا يدنو منها شيء إلا احترق ، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها . فذهب إبليس على شكل أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائماً يصلي ، فلما فرغ من الصلاة قال : يا أيوب هل تدري ما الذي صنع ربك ؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها . فقال أيوب : إنها ماله إذا شاء نزعه . فقال إبليس : إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه . ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني ، خرجت من بطن أمي عرياناً وأضجع في التراب عرياناً وأحشر إلى الله عرياناً ، ولو علم الله عرياناً ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الرواح وصرت شهيداً وأوجر فيك . فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه . فقال إبليس : فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها ، فخرج إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول ، ورد عليه أيوب الرد الأول ، فرجع إبليس صاغراً فقال له عفريت آخر : عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحاً عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال : فاذهب إلى الحرث والثيران ، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به أيوب فرد عليه مثل الرد الأوّل ، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئاً فشيئاً حتى أتى على جميعها . فلما رأى إبليس صبره على ذلك صعد إلى السماء وقال : إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة . فقال الله : انطلق فقد سلطتك ، فأتى أولاد أيوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلاً بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال : لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك ! فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على رأسه ، فاغتنم ذلك إبليس ، ثم لم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال : إلهي إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك . فقال تعالى : انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه . فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليل ، وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره ، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة ، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره . ثم إن وهباً طول في الحكاية إلى أن قال : إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثاً متضرعاً إليه قائلاً : يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ، يا ليتني كنت عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني . ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم ولياً وللأرملة قيماً . إلهي أنا عبد ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي . جعلتني للبلاء غرضاً وسلطت عليّ ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله . إلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها عليّ ويعيرني بفقري وهلاك أولادي . قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام : ليتك لو كرهتني لم تخلقني . ثم قال : ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه من زمرة الصابرين . قلت : إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما كان غرضه أن يرتد أيوب عليه السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة : من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء . الم تسمع قول يعقوب عليه السلام : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } [ يوسف : 86 ] .

ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله { إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } الضر بالفتح الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال . قال جار الله : ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب ، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب . يحكى أن عجوزاً تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا . فقال لها : ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها حباً . وفي قوله : { وأنت أرحم الراحمين } رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود إليه ، ولا لمضرة يدفعها عنه ، ولا يطلب شيئاً ، ولا يجلب مدحاً وكل رحيم سواه . فأما رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضاً تتوقف على داعية يخلقها الله فيه ، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره التي لا بد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو ، وإنها ضرورية في الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور . واختلف العلماء في السبب الذي لأجله دعا الله أيوب ؛ فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه ذات يوم فوجدا ريحاً فقالا : لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة . قال : فما شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما . فقال : اللهم إن كنت تعلم إني لم أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجداً . وقال : اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به . وقال الحسن : مكث أيوب بعدما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهراً ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام . وكان أيوب مواظباً على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعاً من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض قالوا له : ما خبرك ؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سالت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا يزيد بالبلاء إلاّ صبراً وحمداً لله تعالى . فقالوا له : أي مكرك أين عملك الذي أهلكت به من مضى ؟ من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة ؟ قال : من قبل امرأته . قالوا : فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإِنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها . قال : أصبتم فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال : أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت : هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده . فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها وذكر لها ما كان بها من النعم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه . قال الحسن : فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال : لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ . قال : فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية ؟ أين الولد ؟ أين الصديق ؟ أين اللون ؟ أين الحسن ؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه الدواب ؟ اذبح هذه السخلة واسترح ، فقال أيوب : أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا الذي تذكرين من المال والولد والصحة ؟ قالت : الله . قال : كم متعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة . قال : فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء ؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر . قال : ويلك ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة ! والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها . فلما نظر أيوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجداً وقال { إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } .

/خ91