لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{۞وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّـٰحِمِينَ} (83)

أي واذكر أيوبَ حين نادى ربَّه . وسمِّي أيوب لكثرة إيابه إلى الله في جميع أحواله في السرَّاء والضرَّاء ، والشِّدَّة والرَّخاءِ .

ولم يَقُلْ : ارحمني ، بل حَفِظَ أدب الخطايا فقال : { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .

ومن علامات الولاية أن يكونَ العبدُ محفوظاً عليه وقتُه في أوانِ البلاء .

ويقال إخبارُه عنه أنه قال : { مسني الضر } لم يَسْلُبْه اسمَ الصبرِ حيث أخبر عنه سبحانه بقوله : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً } [ ص :44 ] لأنَّ الغالبَ كان من أحواله الصبر ، فنادِرُ قالتِه لم يَسْلبْ عنه الغالِبَ من حالته . والإشارة من هذا إلى أنَّ الغالبَ من حال المؤمن المعرفةُ ، أو الإيمانُ بالله فهو الذي يستغرقُ جميعَ أوقاته ، ولا يخلو منه لحظةً ؛ ونادِرُ زلاَّتِهِ- مع دائمِ إيمانِه - لا يُزَاحِمُ الوصفَ الغالب .

ويقال ؛ لمَّا لم يكن قوله : { مَسَّنِىَ الضُّرُّ } على وجه الاعتراض على التقدير- بل كان على وجه إظهار العجز - فلم يكن ذلك مُنافياً لصفة الصبر .

ويقال : استخرج منه هذا القولَ ليكونَ فيه مُتنفسٌ للضعفاء في هذه الأمة حتى إذا ضَجَّوا في حالِ البلاء لم يكن ذلك منافياً لصفة الصبر .

ويقال لم يكن هذا القولُ منه على جهة الشكوى ، وإنما كان من حيث الشكر { أنِّى مسني الضُّرُّ } الذي تخصُّ به أولياءك ، ولولا أنك أرحم الراحمين لَمَا خصصتني بهذا ، ولكن برحمتك أهَّلْتني لهذا .

ويقال لم يكن هذا القولُ من أيوب ولكنه استغاثةُ البلاء منه ، فلم يُطِقْ البلاءُ صُحْبَتَه فضجَّ منه البلاءُ لا أيوبُ ضَجَّ من البلاء . . . وفي معناه أنشدوا .

صابَرَ الصبرَ فاستغاثَ به الصبرُ *** فصاح المحبُّ بالصبر صبرا

ويقال همزة الاستفهام فيه مضمرة ، ومعناه : أيمسني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين ؟ كما قال : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ } [ الشعراء :22 ] أي أتلك نعمة تمنها عليَّ أن عبدت بني إسرائيل ؟

ويقال إن جبريلَ - عليه السلام - أتى أيوبَ فقال : لِمَ تسكت ؟ فقال : ماذا أصنع ؟ فقال : إن الله سيان عنده بلاؤك وشفاؤك . . . فاسأل الله العافيةَ فقال أيوب : { أني مسني الضر } فقال تعالى : { فكشفنا ما به من ضر } [ الأنبياء :84 ] والفاء تقتضي التعقيب ، فكأنه قال : فعافيناه في الوقت . وكأنه قال : يا أيوب ، لو طلبتَ العافيةَ قبل هذا لاستَجْبْنَا لك .

ويقال سقطت دودةٌ كانت تأكل من بدنه على الأرض فرفعها أيوبُ ووضعها على موضعها ، فعقرته عقرةً عِيلَ صَبْرُه فقال : مسني الضر ، فقيل له : يا أيوب : أتصبر معنا ؟ لولا أني ضربتُ تحت كل شَعْرَةٍ من شعراتك كذا خيمة من الصبر . . . ما صَبَرْتَ ساعةً !

ويقال كانت الدودات التي تأكل منه أكلت ما عَلاَ بَدَنَه ، فلم يَبْقَ منه إلا لسانهُ وقلبه ، فصعدت دودة إلى لسانه ، وأخرى إلى قلبه فقال : { مَسَّنِى الضُّرُّ } . . . فلم يبق لي إلا لسانٌ به اذكرك ، أو قلبٌ به أعرفك ، وإذا لم يَبْقَ أو لي ذلك فلا يمكنني أن أعيش وأصبر !

ويقال استعجمت عليه جهةُ البلاء فلم يعلم أن يصيبه بذلك تطهيراً أو تأديباً أو تعذيباً أو تقريباً أو تخصيصاً أو تمحيصاً .

. . . وكذلك كانت صحبته .

ويقال قيل لأيوب عليه السلام سَلْ العافية فقال : عِشْتُ في النِّعم سبعين سنة فحتى يأتي عليَّ سبعون سنة في البلاء . . . وعندئذٍ أسأل الله العافية !

وقيل لمَّا كَشَفَ الله عنه البلاء قيل له : ما أشدُّ ما لقيتَ في أيام البلاء ؟ فقال شماتة الأعداء .

وفي القصة أن تلامذة أيوب كسروا أقلامهم ، وحرَّقوا ما كتبوه عنه وقالوا : لو كان لك عند الله منزلةٌ لمَا ابْتلاكَ بكل هذا البلاء !

وقيل لم يبقَ معه إلا زوجُه ، وكانت من أولاد يوسف النبي عليه السلام ، فهي التي بقيت معه وكانت تخدمه وتتعهده .

ويقال إنما بقيت تلك المرأة معه لأنها كانت من أهل البلاء من آل يعقوب- عليه السلام .

وقيل إنما قال : مسني الضرُّ لمَّا قال لها الشيطان : إنْ أردتِ أنْ يَشْفَى مريضُكِ فاسجدي لي ، ولم تعلم أنه إبليس لأنه ظَهَرَ لها في صورة إنسان ، فأخبرت أيوبَ بذلك فقال عندئذٍ : { مَسَّنْىَ الضُّرُّ } .

ويقال لمَّا ظهر به البلاءُ اجتمع قومُه وقالوا لها : أخْرِجي هذا المريضَ من قريتنا ، فإننا نخاف العَدْوَى وأنْ يَمَسَّنَا بلاؤه ، وأنْ تُعْدَى إلينا عِلَّتُه ، فأخْرَجَتْه إلى باب القرية فقالو : إنا إذا أصبحنا وقعت أبصارُنا عليه ، فنتشاءم به ، فأبْعِديه عن أبصارنا ، فحملَتْه إلى أرضٍ قَفْرٍ ، وكانت تدخل البلد ، وتُسْتَأْجَر للخَبْزِ والعمل في الدور ، فتأخذ الأجرة وتحملها إليه ، فلما عَلِموا أنَّها امرأتُه استقذروها ولم يستعلموها .

ويقال إنها كانت ذات ذوائب وقرون ، وكان أيوب يأخذ بذوائبها عند نهوضه ، فباعت ذوائبها برغيفٍ أخذته لتحمله إليه ، فوسوس له الشيطان بأنها فعلت الفحشاء ، وأن شعرها جُزَّ في ذلك فَحَلَفَ أيوبُ أنْ يَجْلِدَها إذا صحَّ حَدْسًه ، وكانت المحنةُ على قلبِ تلك المرأة أشَدَّ مما على بَدَنِ أيوب من كل المحن .

وقيل إن امرأته غَابَتْ ودخلَتْ البلدَ ، فعافى اللَّهُ أيوبَ عليه السلام ، وعاد شاباً طرياً كما قال في قصته قوله : { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ ص :42 ] فلما رجعت امرأته ولم تَرَه حسبت أنه أكله سَبْعٌ أو أصابته آفةٌ ، فأخذت تبكي وتولول ، فقال لها أيوب - وهي لم تعرفه لأنه عاد صحيحاً - مالَكِ يا امرأة ؟

قالت : كان لي ها هنا مريض فَفَقَدْته . فقال لها أيوب : أنا ذاك الذي تطلبينه !

وفي بعض الأخبار المروية أنه بقي في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات .

وقيل تعرَّضَ له إبليسُ فقال : إنْ أردتَ العافيةَ فاسجُدْ لي سجدةً ، فقال : { مسني الضُّرُّ } .

ويقال إن أيوب - عليه السلام - كان مُكَاشَفاً بالحقيقة ، مأخوذاً عنه ، فكان لا يُحِسُّ بالبلاء ، فَسَتَرَ عليه مرةً ، ورَدَّه إليه ، فقال : { مسني الضُّرُّ } .

ويقال أَدْخَلَ على أيوب تلك الحالة ، واستخرج منه هذه القالة ليظهر عليه إقامة العبودية .

ويقال أوحى الله إلى أيوب - عليه السلام - أنَّ هذا البلاء اختاره سبعون نبياً قَبْلَكَ فما اخْتَرْتُه إلا لَكَ ، فلمَّا أراد كَشْفَه عنه قال : { مسني الضُّرُّ } .

وقيل كوشف بمعنىً من المعاني فلم يَجِدْ أَلَمَ البلاء فقال : { مَسَّنِىَ الضُّرُّ } لِفَقْدِي ألَمْ الضُّرِّ .

وقال جعفر الصادق : حَبَسَ عنه الوحيَ أربعين يوماً فقال : { مَسَّنِىَ الضُّرُّ } لما لِحَقَه من الضعف بقيام الطاعة فاستجاب إليه بأنْ ردَّ عليه قُوَّتَه ليقوم بحقِّ الطاعة .

ويقال طلب الزيادةَ في الرضا فاستُجِيبَ له بكَشْفِ ما كان به من ضعف الرضا .