معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

قوله تعالى : { وما كان لنبي أن يغل } . الآية ، قال عكرمة ومقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما إن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء ، فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في غنائم أحد ، حين ترك الرماة المركز للغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر ، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ قالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه . وقيل إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم ، فأنزل لله تعالى ( وما كان لنبي أن يغل ) فيعطي قوماً ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية ، وقال محمد بن إسحاق هذا في الوحي ، يقول : ما كان لنبي أن يكتم شيئاً من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة . قوله تعالى ( وما كان لنبي أن يغل ) ، وقرأ ابن كثير وأهل البصرة وعاصم ( يغل ) بفتح الياء وضم العين ، معناه : أن يخون والمراد منه الأمة ، وقيل : اللام فيه منقولة ، معناه : ما كان النبي ليغل ، وقيل معناه : ما كان يظن به ذلك ولا يليق به ، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الغين ، وله وجهان : أحدهما ، أن يكون من الغلول أيضاً أي ما كان لنبي أن يخان ، يعني أن تخونه أمته ، والوجه الآخر أن يكون من الإغلال ، معناه ما كان لنبي أن يغل ، أن يخون ، أي ينسب إلى الخيانة .

قوله تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } . قال الكلبي : يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له : انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع في النار ، ثم يكلف أن ينزل إليه فيخرجه ففعل ذلك به . أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث مولى ابن مطيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهباً ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع ، قال : فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى ، وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أسود يقال له مدعم ، قال : فخرجنا حتى إذا كنا بوادي القرى فبينما مدعم يحط رحلا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فجأة فأصابه فقتله ، فقال الناس : هنيئاً له الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم ، تشتعل ناراً ، فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شراك من نار أو شراكان من نار .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أخبرنا إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى ابن حيان ، عن أبي عمرة الأنصاري ، عن زيد بن خالد الجهني ، قال : إن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صلوا على صاحبكم ، فتغيرت وجوه الناس لذلك ، فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :إن صاحبكم قد غل في سبيل الله ، قال : ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب المروزي ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال :هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال : ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ؟ فهلا جلس في بيت أمه أو في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ فو الذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها تبعر ، ثم رفع يده حتى رأينا عفرة إبطيه ، ثم قال : اللهم هل بلغت ثلاثا .

وروى قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال : لا تصيبن شيئاً إلا بإذني فإنه غلول ، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة .

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه .

وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال وضربوه .

قوله تعالى : { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

الغلول هو : الكتمان من الغنيمة ، [ والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان ]{[171]}  وهو محرم إجماعا ، بل هو من الكبائر ، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص ، فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل ، لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب . وقد صان الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم ، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقا ، وأطهرهم نفوسا ، وأزكاهم وأطيبهم ، ونزههم عن كل عيب ، وجعلهم محل رسالته ، ومعدن حكمته { الله أعلم حيث يجعل رسالته } .

فبمجرد علم العبد بالواحد منهم ، يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم ، ولا يحتاج إلى دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم ، لأن معرفته بنبوتهم ، مستلزم لدفع ذلك ، ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم ، فقال : { وما كان لنبي أن يغل } أي : يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته .

ثم ذكر الوعيد على من غل ، فقال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي : يأت به حامله على ظهره ، حيوانا كان أو متاعا ، أو غير ذلك ، ليعذب به يوم القيامة ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت } الغال وغيره ، كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه ، { وهم لا يظلمون } أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم ، وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة .

لما ذكر عقوبة الغال ، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله ، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه ، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره .


[171]:- زيادة من هامش ب.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

{ وما كان لنبي أن يغل } وما صح لنبي أن يخون في الغنائم فإن النبوة تنافي الخيانة ، يقال غل شيئا من المغنم يغل غلولا وأغل إغلالا إذا أخذه في خفية والمراد منه : إما براءة الرسول صلى الله عليه وسلم عما اتهم به إذ روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ، أو ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم الغنائم . وإما المبالغة في النهي للرسول صلى الله عليه وسلم على ما روي أنه بعث طلائع ، فغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت . فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا ومبالغة ثانية . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب { أن يغل } على البناء للمفعول والمعنى : وما صح له أن يوجد غالا أو أن ينسب إلى الغلول . { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة يأت بالذي غله يحمله على عنقه كما جاء في الحديث أو بما احتمل من وباله وإثمه . { ثم توفى كل نفس ما كسبت } يعني تعطي جزاء ما كسبت وافيا ، وكان اللائق بما قبله أن يقال ثم يوفى ما كسبت لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى . { وهم لا يظلمون } فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

تقدم القول في صيغة : وما كان لكذا أن يكون كذا ، في قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت } [ آل عمران : 145 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء ، وقرأ باقي السبعة «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء ، واللفظة : بمعنى الخيانة في خفاء ، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح ، قال أبو عمرو : تقول العرب : أغل الرجل يغل إغلالاً : إذا خان ، ولم يؤد الأمانة ، ومنه قول النمر بن تولب{[3670]} : [ الطويل ]

جزى اللَّهُ عنّي جَمْرَة َ ابْنَةَ نَوْفَلٍ . . . جزاءَ مُغِلًّ بالأمانةِ كاذبِ

وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان ، قال أبو علي : وتقول من الغل الذي هو الضغن : غل يغِل بكسر الغين ، ويقولون في الغلول من الغنيمة ، غل يغُل بضم الغين ، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء }{[3671]} { وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك }{[3672]} { وما كان لنفس أن تموت }{[3673]} { وما كان الله ليضل قوماً بعد أن هداهم }{[3674]} { وما كان الله ليطلعكم على الغيب }{[3675]} ولا يكاد يجيء : ما كان زيد ليضرب ، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به ، وفي هذا الاحتجاج نظر ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغُل » بضم الغين ، فقيل له : إن ابن مسعود قرأ «يغَل » بفتح الغين ، فقال ابن عباس : بلى والله ويقتل ، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالاً على هذه القراءة - التي هي بفتح الياء وضم الغين ، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم : نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية{[3676]} .

قال القاضي أبو محمد : قيل : كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجاً ، وقيل كانت من منافقين ، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً ، قال النقاش : ويقال : إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد : الغنيمة الغنيمة أيها الناس ، إنما نخشى أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : خشيتم أن نغل{[3677]} ؟ ونزلت هذه الآية ، وقال الضحاك : بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم ، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ، فأنزل الله تعالى عليه عتاباً ، { وما كان لنبي أن يغل } أي يقسم لبعض ويترك بعضاً{[3678]} ، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس ، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم ، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به : اقسم علينا غنائمنا يا محمد ، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه{[3679]} ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال ابن إسحاق : الآية إنما نزلت إعلاماً بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئاً ما أمر بتبليغه .

قال القاضي : وكأن الآية على هذا في قصة - أحد - لما نزل عليه : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه ، وبالجملة فهو تأويل ضعيف ، وكان يجب أن يكون «يُغِل » بضم الياء وكسر الغين ، لأنه من الإغلال في الأمانة ، وأما قراءة من قرأ «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، فمعناها عند جمهور من أهل العلم : أن ليس لأحد أن يغله : أي يخونه في الغنيمة ، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه ، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره ، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلهم حظهم من التوقير ، وقال بعض الناس : معنى «أن يغل » أن يوجد غالاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً ، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وقال أبو علي الفارس : معنى «يُغَل » بضم الياء وفتح الغين يقال له : غللت وينسب إلى ذلك ، كما تقول أسقيته ، إذا قلت : سقاك الله كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]

وَأُسْقيهِ حتى كاد مِمّا أَبُثُّهُ . . . تُكَلِّمُني أحْجَارُه وَمَلاعِبُهْ{[3680]}

وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام ، ونحوه في الكلام : أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا آكل سمناً حتى يحياً الناس من أول ما يحيون{[3681]} : أي يدخلون في الحيا{[3682]} وقوله تعالى : { ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة } وعيد لمن يغل من الغنيمة ، أو في زكاته ، فيجحدها ويمسكها ، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : «ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك{[3683]} ، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء ، وفرس له حمحمة »

وروى نحو هذا الحديث ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، الحديث بطوله{[3684]} ، وروى نحوه أبو حميد الساعدي{[3685]} وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس{[3686]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أدوا الخياط والمخيط »{[3687]} ، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم :< شراك أو شراكان من نار>{[3688]} ، وقال في مدعم{[3689]} ، < إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً > .

قال القاضي : وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام{[3690]} ، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ، ألا ترى إلى قول الحادرة{[3691]} : [ الكامل ]

أسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ . . . رفع اللِّواء لَنَا بِهَا في الْمَجمَعِ

وكانت العرب ترفع للغادر لواء ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته ، وقد تقدم القول في نظير ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }{[3692]} .


[3670]:- هو النمر بن تولب العكلي، أحد الشعراء المخضرمين، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، ومدحه بشعر، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابا، ثم نزل بعد ذلك البصرة، وكان جوادا، وعمّر طويلا، يقال: عاش مائة سنة. "الإصابة والاستيعاب" و"تهذيب التهذيب" 10/474.
[3671]:- من الآية (38) من سورة يوسف.
[3672]:- من الآية (145) من سورة يوسف.
[3673]:- من الآية (145) من سورة آل عمران.
[3674]:- من الآية (115) من سورة التوبة.
[3675]:- من الآية (179) من سورة التوبة.
[3676]:- أخرجه أبو داود، وعبد بن حميد الترمذي، وحسنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق مقسم عن ابن عباس. "الدر المنثور للسيوطي 2/91" و"ابن كثير 1/421".
[3677]:- ذكره الثعلبي، والواحدي عن الكلبي ومقاتل. (الكشاف1/434). والبغوي والخازن في الجزء الأول ص: 369.
[3678]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير من طريق سلمة بن نبيط- عن الضحاك. (الدر المنثور للسيوطي2/91)، وأخرجه الطبري، والواحدي في أسبابه. (الكشاف1/343).
[3679]:- أخرجه أبو داود، والإمام أحمد، ورجال أحد أسانيده ثقات. (مجمع الزوائد6/187) وسيرة ابن هشام 4/928).
[3680]:- سقيت فلانا وأسقيته: إذا قلت له: سقاك الله. وبث الشكوى: جهر بها والملاعب: ملاعب الصبيان في الدار من ديارات العرب حيث يلعبون، والواحد ملعب. وقبله: وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه.
[3681]:- كان ذلك في عام الرمادة، وهو عام أصاب الناس فيه مجاعة وهي سنة: 17 من الهجرة. (تاريخ الخلفاء للسيوطي 130.ط. السعادة بمصر)
[3682]:- والحيا، مقصور: الخصب، والجمع أحياء، وقد جاء ممدودا بمعنى المطر والخصب، والحياة: نقيض الموت. والحياء: التوبة والحشمة.
[3683]:- أخرجه بطوله ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وابن جرير، والبيهقي، في الشعب- عن أبي هريرة قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظّم أمره، ثم قال: ألا لا ألفين أحدكم). (الدر المنثور للسيوطي 6/92)
[3684]:-أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (4/159)، وذكره ابن كثير بطوله وقال: لم يروه أحد من أهل الكتب الستة (1/421).
[3685]:- هو أبو حميد الساعدي الأنصاري الصحابي المشهور، عبد الرحمان بن سعد، له ذكر في الصحيحين، شهد أحدا وما بعدها، وتوفي آخر خلافة معاوية. "الاستيعاب" و"الإصابة" 4/46"
[3686]:- لعله عبد الله بن أنيس الجهني لأنه أشهر الخمسة الذين شاركوه في اسمه واسم أبيه، قاله الزرقاني على "المواهب اللدنية" في سرية "عبد الله بن أنيس"، وقال: لا معنى للتردد في أنه غيره (2/63). وترجم له في سيرة ابن هشام، وذكر قصيدته التي قالها في قتل ابن نبيح (4/267). وترجم له الحافظ في "الفتح" في "باب الخروج في طلب العلم" من البخاري:(1/127). كما ترجم له في الإصابة أيضا بطول (2/278) وقال فيه صاحب "الاستيعاب": كان مهاجريا أنصاريا عقبيا. وترجم له السيوطي في إسعاف المبطا (197).
[3687]:- أخرجه الدرامي في سننه، بن عبادة بن الصامت (2/230) وأخرجه الموطأ في باب ما جاء في الغلول (3/29) كما أخرجه أبو داود باختصاره، ورواه الإمام أحمد ورجال أحد أسانيده ثقات. (مجمع الزوائد 6/187) وكذا ورد في (سيرة ابن هشام: 4/928).
[3688]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي- عن أبي هريرة بطوله. (الترغيب والترهيب2/309). وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أيضا. (الدر المنثور 2/92)، كما أخرجه الداروردي عن ثور. (شرح الزرقاني على الموطأ 3/31).
[3689]:- مدعم الأسود كان مولى لرفاعة الجذامي، فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذكره في الموطأ، والصحيحين، وهو الذي أغل الشملة يوم خيبر، أصيب بسهم غرب فمات عام خيبر. (الإصابة 3/394).
[3690]:- أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم-عن أنس، والإمام أحمد، ومسلم- عن ابن مسعود، ومسلم- عن ابن عمر بلفظ: (لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة). وأخرجه مسلم- عن أبي سعيد بلفظ: (لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة) (الجامع الصغير 2/356). وفي "مجمع الزوائد" بروايات وأسانيد متعددة عن الطبراني (1/230) كما أخرجه المنذري والدارمي.
[3691]:- الحادرة: لقب غلب عليه، واسمه قطبة بن أوس، وهو شاهر جاهلي مقل، ذكر أنه خرج هو وزبان الفزاري يصطادان، فاصطادا جميعا فخرج زبان يشوي ويأكل وحده في الليل فقال فيه شعرا، فوقع هجاء بينهما (الأغاني 3/265. والحيوان للجاحظ 6/358).
[3692]:- عند تفسير قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون]. وهي الآية (281) من سورة (البقرة).