الأولى : لما أخل الرماة يوم أحد بمراكزهم - على ما تقدم - خوفا من أن يستولي المسلمون على الغنيمة فلا يصرف إليهم شيء ، بين الله سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجور في القسمة ، فما كان من حقكم أن تتهموه . وقال الضحاك : بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم ، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عليه عتابا : " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل " أي يقسم لبعض ويترك بعضا . وروي نحو هذا القول عن ابن عباس . وقال ابن عباس أيضا وعكرمة وابن جبير وغيرهم : نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت في المغانم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : لعل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخذها ، فنزلت الآية أخرجه أبو داود والترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب . قال ابن عطية : قيل كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجا . وقيل : كانت من المنافقين . وقد روي أن المفقود كان سيفا . وهذه الأقوال تخرج على قراءة " يغل " بفتح الياء وضم الغين . وروى أبو صخر عن محمد بن كعب " وما كان لنبي أن يغل " قال : تقول وما كان لنبي أن يكتم شيئا من كتاب الله . وقيل : اللام فيه منقولة ، أي وما كان نبي ليغل ، كقوله : " ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه " {[3630]} [ مريم : 35 ] . أي ما كان الله ليتخذ ولدا . وقرئ " يغل " بضم الياء وفتح الغين . وقال ابن السكيت : [ لم نسمع في المغنم إلا غل غلولا ، وقرئ ]{[3631]} وما كان لنبي أن يَغُل ويُغَل . قال : فمعنى " يغل " يخون ، ومعنى " يغل " يخون ، ويحتمل معنيين : أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته ، والآخر يخون أن ينسب إلى الغلول : ثم قيل : إن كل من غل شيئا في خفاء فقد غل يغل غلولا : قال ابن عرفة : سميت غلولا لأن الأيدي مغلولة منها ، أي ممنوعة . وقال أبو عبيد : الغلول من المغنم خاصة ، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد . ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة : أغَلَّ يغِل ، ومن الحقد : غل يغِل بالكسر ، ومن الغلول : غل يغُل بالضم . وغل البعير أيضا [ يَغُلُّ غلة ]{[3632]} إذا لم يقض ريه وأغل الرجل خان ، قال النمر :
جزى الله عنا حمزةَ{[3633]} ابنةَ نوفلٍ *** جزاءَ مُغِلٍّ بالأمانة كاذب
وفي الحديث : ( لا إغلال ولا إسلال ) أي لا خيانة ولا سرقة ، ويقال : لا رشوة . وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان . وقال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن ) من رواه بالفتح{[3634]} فهو من الضغن . وغل دخل{[3635]} يتعدى ولا يتعدى ، يقال : غل فلان المفاوز ، أي دخلها وتوسطها . وغل من المغنم غلولا ، أي خان . وغل الماء بين الأشجار إذا جرى فيها ، يغل بالضم{[3636]} في جميع ذلك . وقيل : الغلول في اللغة أن يأخذ من المغنم شيئا يستره عن أصحابه ، ومنه تغلغل الماء في الشجر إذا تخللها . والغلل : الماء الجاري في أصول الشجر ، لأنه مستتر بالأشجار ، كما قال{[3637]} :
لعب السُّيُول به فأصبح ماؤه *** غَلَلاً يُقَطِّعُ في أصول الخِرْوَعِ
ومنه الغلالة للثوب الذي يلبس تحت الثياب . والغال : أرض مطمئنة ذات شجر . ومنابت السلم{[3638]} والطلح يقال لها : غال . والغال أيضا نبت ، والجمع غلان بالضم . وقال بعض الناس : إن معنى " يغل " يوجد غالا ، كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محمودا . فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى " يغل " بفتح الياء وضم الغين . ومعنى " يغل " عند جمهور أهل العلم أي ليس لأحد أن يغله ، أي يخونه في الغنيمة . فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في الغنائم ، والتوعد عليه . وكما لا يجوز أن يخان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخان غيره ، ولكن خصه بالذكر ؛ لأن الخيانة معه أشد وقعا وأعظم وزرا ؛ لأن المعاصي تعظم بحضرته لتعين توقيره . والولاة إنما هم على أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلهم حظهم من التوقير . وقيل : معنى " يغل " أي ما غل نبي قط ، وليس الغرض النهي .
الثانية : قوله تعالى : " ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " أي يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته ، معذبا بحمله وثقله ، ومرعوبا بصوته ، وموبخا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد ، على ما يأتي . وهذه الفضيحة التي يوقعها الله تعالى بالغال نظير الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن ينصب له لواء عند أسته بقدر غدرته . وجعل الله تعالى هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ، ألا ترى إلى قول الشاعر :
أَسُمَيّ ويحكِ هل سمعتِ بغَدْرَةٍ *** رُفِعَ اللواءُ لنا بها في المجمع
وكانت العرب ترفع للغادر لواء ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال : ( لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة علي رقبته بعيرا له رغاء يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة{[3639]} فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع{[3640]} تخفق فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت{[3641]} فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ) وروى أبو داود عن سمرة{[3642]} بن جندب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيؤون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من الشعر فقال : يا رسول الله هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة . فقال : ( أسمعت بلالا ينادي ثلاثا ) ؟ قال : نعم . قال : ( فما منعك أن تجيء به ) ؟ فاعتذر إليه . فقال : ( كلا{[3643]} أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك ) . قال بعض العلماء : أراد يوافي بوزر ذلك يوم القيامة ، كما قال في آية أخرى : " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون " {[3644]} [ الأنعام : 31 ] . وقيل : الخبر محمول على شهرة الأمر ، أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيرا له رغاء أو فرسا له حمحمة .
قلت : وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه ، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل كما في كتب الأصول . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ، ولا عطر بعد عروس . ويقال : إن من غل شيئا في الدنيا يمثل له يوم القيامة في النار ، ثم يقال له : انزل إليه فخذه ، فيهبط إليه ، فإذا انتهى إليه حمله ، حتى إذا انتهى إلى الباب سقط عنه إلى أسفل جهنم ، فيرجع إليه فيأخذه ، لا يزال هكذا إلى ما شاء الله . ويقال " يأت بما غل " يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول .
الثالثة : قال العلماء : والغلول كبيرة من الكبائر ، بدليل هذه الآية وما ذكرناه من حديث أبي هريرة : أنه يحمله على عنقه . وقد قال صلى الله عليه وسلم في مدعم{[3645]} : ( والذي نفسي بيده أن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ) قال : فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( شراك أو شراكان من نار ) . أخرجه الموطأ . فقوله عليه السلام : ( والذي نفسي بيده ) وامتناعه من الصلاة على من غل دليل على تعظيم الغلول وتعظيم الذنب فيه وأنه من الكبائر ، وهو من حقوق الآدميين ولا بد فيه من القصاص بالحسنات والسيئات ، ثم صاحبه في المشيئة . وقوله : ( شراك أو شراكان من نار ) مثل قوله : ( أدوا الخِياط{[3646]} والمِخْيَط ) . وهذا يدل على أن القليل والكثير لا يحل أخذه في الغزو قبل المقاسم ، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم{[3647]} في أرض الغزو ومن الاحتطاب والاصطياد . وقد روي عن الزهري أنه قال : لا يؤخذ الطعام في أرض العدو إلا بإذن الإمام . وهذا لا أصل له ؛ لأن الآثار تخالفه ، على ما يأتي . قال الحسن : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحوا المدينة أو الحصن أكلوا من السويق والدقيق والسمن والعسل . وقال إبراهيم : كانوا يأكلون من أرض العدو الطعام في أرض الحرب ويعلفون قبل أن يخمسوا . وقال عطاء : في الغزاة يكونون في السرية فيصيبون أنحاء{[3648]} السمن والعسل والطعام فيأكلون ، وما بقي ردوه إلى إمامهم ؛ وعلى هذا جماعة العلماء .
الرابعة : وفي هذا الحديث دليل على أن الغال لا يحرق متاعه ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرق متاع الرجل{[3649]} الذي أخذ الشملة ، ولا أحرق متاع صاحب الخرزات{[3650]} الذي ترك الصلاة عليه ، ولو كان حرق متاعه واجبا لفعله صلى الله عليه وسلم ، ولو فعله لنقل ذلك في الحديث . وأما ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه ) . فرواه أبو داود والترمذي من حديث صالح بن محمد بن زائدة ، وهو ضعيف لا يحتج به . قال الترمذي : سألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال : إنما روى هذا صالح بن محمد وهو أبو واقد الليثي وهو منكر الحديث . وروى أبو داود أيضا عنه قال : غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز ، فغل رجل متاعا فأمر الوليد بمتاعه فأحرق ، وطيف به ولم يعطه سهمه . قال أبو داود : وهذا أصح الحديثين . وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه . قال أبو داود : وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد - ولم أسمعه منه - : ومنعوه سهمه . قال أبو عمر : قال بعض رواة هذا الحديث : واضربوا عنقه وأحرقوا متاعه . وهذا الحديث يدور على صالح بن محمد وليس ممن يحتج به . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) وهو ينفي القتل في الغلول . وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس على الخائن ولا على المنتهب ولا على المختلس قطع ) . وهذا يعارض حديث صالح بن محمد وهو أقوى من جهة الإسناد . والغال خائن في اللغة والشريعة وإذا انتفى عنه القطع فأحرى القتل . وقال الطحاوي : لو صح حديث صالح المذكور احتمل أن يكون حين كانت العقوبات في الأموال ، كما قال في مانع الزكاة : ( إنا آخذوها وشطر ماله ، عزمة من عزمات الله تعالى ){[3651]} . وكما قال أبو هريرة في ضالة الإبل المكتومة : فيها غرامتها ومثله معها . وكما روى عبد الله بن عمرو بن العاص في الثمر المعلق غرامة مثليه وجلدات نكال وهذا كله منسوخ ، والله أعلم .
الخامسة : فإذا غل الرجل في المغنم ووجد أخذ منه ، وأدب وعوقب بالتعزير . وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث : لا يحرق متاعه . وقال الشافعي والليث وداود : إن كان عالما بالنهي عوقب . وقال الأوزاعي : يحرق متاع الغال كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه ، ولا تنزع منه دابته ، ولا يحرق الشيء الذي غل . وهذا قول أحمد وإسحاق ، وقاله الحسن ، إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا . وقال ابن خويز منداد : وروي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ضربا الغال وأحرقا متاعه . قال ابن عبد البر : وممن قال يحرق رحل الغال ومتاعه مكحول وسعيد بن عبد العزيز . وحجة من ذهب إلى هذا حديث صالح المذكور . وهو عندنا حديث لا يجب به انتهاك حرمة ، ولا إنفاذ حكم ؛ لما يعارضه من الآثار التي هي أقوى منه . وما ذهب إليه مالك ومن تابعه من هذه المسألة أصح من جهة النظر وصحيح الأثر . والله أعلم .
السادسة : لم يختلف مذهب مالك في العقوبة على البدن ، فأما في المال فقال في الذمي يبيع الخمر من المسلم : تراق الخمر على المسلم ، وينزع الثمن من الذمي عقوبة له ؛ لئلا يبيع الخمر من المسلمين . فعلى هذا يجوز أن يقال : تجوز العقوبة في المال . وقد أراق عمر رضي الله عنه لبنا شيب بماء .
السابعة : أجمع العلماء على أن للغال أن يرد جميع ما غل إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك ، وإنه إذا فعل ذلك فهي توبة له ، وخروج عن ذنبه . واختلفوا فيما يفعل به إذا افترق أهل العسكر ولم يصل إليه ؛ فقال جماعة من أهل العلم : يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي . هذا مذهب الزهري ومالك والأوزاعي والليث والثوري ، وروي عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري . وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس ؛ لأنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه ، وهو مذهب أحمد بن حنبل . وقال الشافعي : ليس له الصدقة بمال غيره . قال أبو عمر : فهذا عندي فيما يمكن وجود صاحبه والوصول إليه أو إلى ورثته ، وأما إن لم يكن شيء من ذلك فإن الشافعي لا يكره الصدقة حينئذ إن شاء الله . وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف لها وانقطاع صاحبها ، وجعلوه إذا جاء - مخيرا بين الأجر والضمان ، وكذلك المغصوب . وبالله التوفيق . وفي تغريم الغلول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة ، فلا يحل لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر ، فمن غصب شيئا منها أدب اتفاقا ، على ما تقدم . الثامنة : وإن وطئ جارية أو سرق نصابا فاختلف العلماء في إقامة الحد عليه ، فرأى جماعة أنه لا قطع عليه .
التاسعة : ومن الغلول هدايا العمال ، وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغال . روى أبو داود في سننه ومسلم في صحيحه عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية{[3652]} ، [ قال ابن السرح : ابن الأتبية ]{[3653]} على الصدقة ، فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي لي . فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : ( ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا ، لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء وإن كانت بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ){[3654]} - ثم رفع يديه حتى رأينا عُفْرَتي{[3655]} إبطيه ثم قال : - ( اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ) . وروى أبو داود عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ) . وروى أيضا عن أبي مسعود الأنصاري قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا ثم قال : ( انطلق أبا مسعود ولا ألفينك يوم القيامة تأتي على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته ) . قال : إذا لا أنطلق . قال : ( إذا لا أكرهك ) . وقد قيد هذه الأحاديث ما رواه أبو داود أيضا عن المستورد بن شداد قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من كان لنا عاملا فليكتسب{[3656]} زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما ، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا ) . قال فقال أبو بكر : أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من اتخذ غير ذلك فهو غال سارق ) . والله أعلم .
العاشرة : ومن الغلول حبس الكتب عن أصحابها ، ويدخل غيرها في معناها . قال الزهري : إياك وغلول الكتب . فقيل له : وما غلول الكتب ؟ قال : حبسها عن أصحابها . وقد قيل في تأويل قوله تعالى : " وما كان لنبي أن يغل " أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة . وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم ، فسألوه أن يطوي ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، قاله محمد بن بشار{[3657]} . وما بدأنا به قول الجمهور .
الحادية عشرة : قوله تعالى : " ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " تقدم القول فيه{[3658]} .