السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

{ وما كان لنبي أن يغل } أي : ما صح لنبيّ أن يخون في الغنائم فإنّ النبوّة تنافي الخيانة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال ابن عباس : نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ، وقال مقاتل : نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم تقسم يوم بدر ، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ ) فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : ( بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم ؟ ) وقال محمد بن إسحاق بن يسار : هذا في الوحي يقول ما كان لنبي أن يكتم شيئاً من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة ، كان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وفيه سب دينهم وسب آلهتهم فسألوا أن يترك ذلك فنزلت .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم وتأخرت القسمة لبعض الموانع ، فجاء قوم وقالوا : ألا نقسم غنائمنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( لو كان لكم مثل أحد ذهباً ما حبست عليكم منه درهماً أتحسبون أني أغلكم مغنمكم ) فنزلت وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الغين على البناء للمفعول والمعنى على هذا وما صح لنبي أن يوجد غالاً أو ينسب إلى الغلول { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } قال أكثر المفسرين : إنّ هذه الآية على ظاهرها ، قالوا : وهي نظير قوله تعالى في مانعي الزكاة { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } ( التوبة ، 35 ) ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ألقين أحدكم يجيء على رقبته يوم القيامة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها نغاء فينادي : يا محمد فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ) قال المحققون : وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك المغلول ازدادت فضيحته . وعن ابن عباس أنه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له : انزل إليه فخذه فينزل إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره ، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم يكلف أن ينزل إليه فيخرجه ففعل ذلك به . وعن أبي هريرة : قتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبد فقال الناس : هنيئاً له الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه ناراً ) فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( شراك من النار أو شراكان من نار ) وقال أبو مسلم : ليس المقصود من الآية ظاهرها بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل كقوله تعالى : { إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله } ( لقمان ، 16 )

فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهر بل المقصود إثبات أنّ الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد والمعنى أنّ الله تعالى يحفظ عليه هذا المغلول ويقرّره عليه يوم القيامة ويجازيه به ؛ لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية . وعن أبي حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسد على الصدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال : ( ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فهلا جلس في بيت أمّه أو في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا فوالذي نفسي بيده لا يأخذ منها أحد شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغو ) ثم رفع يديه حتى رؤيت عفرة إبطه ثم قال : ( اللهمّ هل بلغت اللهمّ هل بلغت ) { ثم توفى كل نفس } أي : تعطى جزاء { ما كسبت } أي : عملت وافياً الغال وغيره .

فإن قيل : هلا قيل : ثم يوفى أي : الغال ما كسب ؟ أجيب : بأنه عم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى { وهم لا يظلمون } شيئاً فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم .