238- يحيى: مالك عن عبد الرحمن بن سعيد، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أدوا الخياط والمخيط فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة من قراء الحجاز والعراق: {وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ} بمعنى: أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم. واحتجّ بعض قارئي هذه القراءة، أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قطيفة فقدت من مغانم القوم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم: لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها...
وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك -بفتح الياء وضمّ الغين-: إنما نزلت هذه الآية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجههم في وجه، ثم غنم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يقسم للطلائع، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ، وأن الواجب عليه في الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم، ويعرّفه الواجب عليه من الحكم فيما أفاء الله عليه من الغنائم، وأنه ليس له أن يخصّ بشيء منها أحدا ممن شهد الوقعة أو ممن كان ردءا لهم في غزوهم دون أحد...
وقال آخرون ممن قرأ ذلك -بفتح الياء وضمّ الغين-: إنما أنزل ذلك تعريفا للناس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا يكتم من وحي الله شيئا...
فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك: ما ينبغي لنبيّ أن يكون غالاّ، بمعنى: أنه ليس من أفعال الأنبياء خيانة أممهم. يقال منه: غلّ الرجل فهو يغلّ، إذا خان، غلولاً، ويقال أيضا منه: أغلّ الرجل فهو يُغِلّ إغلالاً، كما قال شريح: ليس على المستعير غير المغلّ ضمان، يعني: غير الخائن ويقال منه: أغلّ الجازر: إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد. وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل...
وقرأ ذلك آخرون: «ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ» -بضم الياء وفتح الغين-، وهي قراءة عُظْم قراء أهل المدينة والكوفة. واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: معناه: ما كان لنبيّ أن يغله أصحابه. ثم أسقط الأصحاب، فبقي الفعل غير مسمى فاعله وتأويله: وما كان لنبيّ أن يخان...
وقال آخرون منهم: معنى ذلك: وما كان لنبيّ أن يتهم بالغلول فيخون ويسرق. وكأن متأوّلي ذلك كذلك وجهوا قوله: «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ» إلى أنه مراد به يغلّل، ثم خففت العين من يُفَعّل فصارت يفعل، كما قرأ من قرأ قوله: «فإنّهُمْ لا يُكْذِبُونك» بتأوّل يُكَذّبُونك. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ: {وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ} بمعنى: ما الغلول من صفات الأنبياء، ولا يكون نبيا من غلّ. وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عزّ وجلّ أوعد عقيب قوله: {وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ} أهل الغلول، فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ}... الآية، والتي بعدها، فكان في وعيده عقيب ذلك أهل الغلول، الدليل الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله: {وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ} لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلول، لعقب ذلك بالوعيد على التهمة، وسوء الظنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بالوعيد على الغلول، وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول بيان بين، أنه إنما عرف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتف من صفة الأنبياء وأخلاقهم، لأن ذلك جرم عظيم، والأنبياء لا تأتي مثله. فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك: فأولى منه: وَما كان لنبيّ أن يخونه أصحابه إن ذلك كما ذكرت، ولم يعقب الله قوله: {وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ} إلا بالوعيد على الغلول، ولكنه إنما وجب الحكم بالصحة لقراءة من قرأ: «يُغَلّ» بضم الياء وفتح الغين، لأن معنى ذلك: وما كان للنبيّ أن يغله أصحابه، فيخونوه في الغنائم قيل له: أفكان لهم أن يغلوا غير النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخونوه، حتى خصوا بالنهي عن خيانة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن قالوا: نعم، خرجوا من قول أهل الإسلام، لأن الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط. وإن قال قائل: لم يكن ذلك لهم في نبيّ ولا غيره؟ قيل: فما وجه خصوصهم إذا بالنهي عن خيانة النبيّ صلى الله عليه وسلم وغلوله وغلول بعض اليهود، بمنزلة فيما حرّم الله على الغالّ من أموالهما، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة إليهما. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا من أن الله عزّ وجلّ نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه، ناهيا بذلك عباده عن الغلول، وآمرا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم... ثم عقب تعالى ذكره نهيهم عن الغلول بالوعيد عليه، فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ}... الآيتين معا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ}. يعني بذلك تعالى ذكره: ومن يخن من غنائم المسلمين شيئا، وفيئهم، وغير ذلك، يأت به يوم القيامة في المحشر...
{ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}. يعني بذلك جلّ ثناؤه: {ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفْسٍ}: ثم تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها وافيا غير منقوص ما استحقه واستوجبه من ذلك: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} يقول: لا يفعل بهم إلا الذي ينبغي أن يفعل بهم من غير أن يعتدي عليهم، فينقصوا عما استحقوه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعنى {وَمَا كَانَ لِنَبِي أَنْ يَغُلَّ} وما صحّ له ذلك، يعني أن النبوة تنافي الغلول، وكذلك من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى معنى الأوّل، لأن معناه: وما صح له أن يوجد غالاً، ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالاً. وفيه وجهان: أحدهما أن يبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وينزه وينبه على عصمته بأن النبوّة والغلول متنافيان؟ لئلا يظن به ظانّ شيئاً منه وألا يستريب به أحد... والثاني أن يكون مبالغة في النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي: أنه بعث طلائع فغنمت غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع، فنزلت. يعني: وما كان لنبيّ أن يعطي قوماً ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمى حرمان بعض الغزاة «غلولا» تغليظاً وتقبيحاً لصورة الأمر، ولو قرئ: «أن يغل» من أغل بمعنى غل، لجاز {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} يأت بالشيء الذي غله بعينه يحمله... ويجوز أن يراد يأتي بما احتمل من وباله وتبعته وإثمه فإن قلت: هلا قيل: ثم يوفى ما كسب، ليتصل به؟ قلت: جيء بعامّ دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى، وهو أبلغ وأثبت، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزي فموفى جزاءه، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي يعدل بينهم في الجزاء، كلٌّ جزاؤه على قدر كسبه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلهم حظهم من التوقير...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: في سبب نزولها: وفيها ثلاثةُ أقوال:
الأول: روي أن قوماً من المنافقين اتهمُوا النبي صلى الله عليه بشيء من المغانم، وروي أنّ قطيفةً حمراء فُقِدَتْ، فقال قوم: لعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخذَها، وأكثرُوا في ذلك، فأنزل الله سبحانه الآية.
الثاني: أنَّ قَوْماً غَلّوا من المغنم أو همُّوا فأنزل الله الآية فيما همُّوا ونهاهم عن ذلك، رواه الترمذي.
الثالث: نهى اللهُ أن يكتُم شيئاً من الوَحْي.
المسألة الثانية: في حقيقة الغلول:
اعلموا -وفَّقكم الله- أنّ غلّ ينصرف في اللغة ثلاثة معان:
الأول: خيانة مطلقة. الثاني: في الحقد، يقال في الأول تغُل بضم الغين، وفي الثاني يغِل -بكسر الغين.
الثالث: أنه خيانة الغنيمة؛ وسمي بذلك لوجهين: أحدهما لأنه جرَى على خفاء.
الثاني: قال ابن قتيبة: كان أصله من خان فيه إذا أدخله في متاعه فسترَه فيه.
ومنه الحديث: «لا إغلال ولا إسلال». وفيه تفسيران:
أحدهما: أنَّ الإغلال خيانة المغنم، والإسلال: السرقة مطلقة.
الثاني: أن الإغلال والإسلال السرقة.
والصحيح عندي أن الإغلال خيانة المغنم، والإسلال سرقة الخطف من حيث لا تشعر، كما يفعلُ سُودان مكَّةَ اليوم.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يغُل بضم الغين، وفَتَحها الباقون، وهما صحيحتان قراءة ومعنى.
المسألة الرابعة: في معنى الآية:
فأما مَنْ قرأها بضم الغين فمعناه: ما كان لنبيٍّ أن يخونَ في مَغْنم؛ فإنه ليس بمتَّهم. ولا في وَحْي، فإنه ليس بظَنِين ولا ضَنِين، أي ليس بمتهم عليه ولا بخيل فيه، فإنه إذا كان أميناً حريصاً على المؤمنين فكيف يخونُ وهو يأخذ ما أحبَّ من رأس الغنيمة ويكون له فيه سَهْم الصَّفِيّ؛ إذا كان له أن يصطفي مِنْ رأس الغنيمة ما أراد، ثم يأخذ الْخُمْس وتكون القسمة بعد ذلك؟ فما كان ليفعلَ ذلك كرامةَ أخلاق وطهارةَ أعراق، فكيف مع مَرْتبة النبوة وعصمة الرسالة.
ومن قرأ يغَل- بنصب الغين فله أربعة معان:
الأول: يوجد غالاًّ، كما تقول: أحمدت فلاناً.
الثاني: ما كان لنبي أن يخونه أحد، وقد روي أنّ هذا تُلِي على ابن عباس، وفسر بهذا عليّ وابن مسعود. فقال: نعم ويقتل.
وهذا لا يصحّ عندنا؛ فإن باعَهُ في العلم والتفسير لا يَبُوعه أحد من الخلق، فإنه ليس المعنى بقوله: وما كان لنبيٍّ أن يغل -بفتح الغين، أن يخونه أحدٌ وجوداً، إنما المرادُ به أن يخونه أحدٌ شَرْعاً، نعم يكون ذلك فيهم فُجُوراً وتعدّياً، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر تعظيماً لقَدْره، وإن كان غيرُه أيضاً لا يجوزُ أن يَخُون، ولكن هو أعظم حرمة.
الثالث: ما كان لنبيٍّ أن يتهم فإنه مبرَّأ من ذلك، وهذا يدل على بطلان قولِ مَنْ قال: إنَّ شيطاناً لبَّس على النبي صلى الله عليه وسلم الوحْيَ وجاءه في صورة مَلَك، وهذا باطل قَطْعاً...
الرابع: ما كان لنبي أن يغَل- بفتح الغين، ولا يعلم، وإنما يتصوَّر ذلك في غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ أما النبيُّ صلى الله عليه وسلم فإذا خانه أحدٌ أطْلَعه اللهُ سبحانه عليه.
وهذا أقوى وجوه هذه الآية؛ فقد ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثَقَله رجل يقال له كركرة فمات، فقال النبيّ عليه السلام: «هو في النار»، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوه قد غلّ عَباءة.
وقد رَوَى أبو داود وغيره، في الموطأ أنَّ رجلاً أصيب يوم خَيْبَر فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صلُّوا على صاحِبكم»، فتغيَّرت وجُوه القوم. فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نَفْسي بيده إنَّ الشملة التي أخذها يوم خَيْبَر لم تُصِبها المقاسم لتَشْتَعِلُ عليه ناراً».
وفي رواية فقال: «إن صاحبكم قد غَلَّ في سبيل الله ففتشنا متاعَه فوجدنا خرزاً من خرز يهود ما يُساوي درهمين».
المسألة الخامسة: قوله تعالى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ}.
روى البخاري وغيره، عن أبي هريرة قال: قام فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فذكر الغلول وعظَّمه، وقال: «لا أُلفِيَنَّ أحدَكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغَاء، وعلى رقبته فرس لها حَمْحَمة يقول: يا رسول الله، أغِثْني. فأقول: لا أمْلِكُ لك من الله شيئاً قد بلَّغت..» الحديث.
المسألة السادسة: إذا غلَّ الرجل في المغنم فوجدناه أخذناه منه وأدَّبْناه خلافاً للأوزاعي وأحمد وإسحاق من الفقهاء، وللحسين من التابعين، حيث قالوا: يحرق رَحْله إلا الحيوان والسلاح. قال الأوزاعي: إلا السرج، والإكاف؛ لحديث أبي داود، عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إذا وجدتم الرجل قد غَلَّ فأحْرِقُوا متاعَه واضربوه». رواه أبو داود عن عبد العزيز بن محمد بن أبي زائدة، عن سالم، عن أبيه، عن عمر. ورواه ابن الجارود والدارقُطْني نحوه. قال ابن الجارود، عن الذهلي، عن علي بن بحر القطان، عن الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده فذكره. وذكر البخاري حديث كركرة المتقدم عن عبدالله بن عمر قال: ولم يذكر عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرق متاعه.
وهذا أصحّ. ويحتمل أن يكونَ النبيُّ إنما لم يُحْرِق رَحْل كركرة؛ لأنّ كركرة قد فات بالموت؛ والتحريقُ إنما هو زَجْر ورَدْع، ولا يُرْدَع مَن مات.
والجواب أنه يردع به مَن بقي، ويحتمل أنه كان ثم ترك، ويعضده أنه لا عقوبةَ في الأموال، ولكنه يؤدَّب بجنايته لخيانته بالإجماع.
المسألة السابعة: قال علماؤنا: تحريمُ الغلول دليلٌ على اشتراك الغانمين في الغنيمة، فلا يحلُّ لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر لثلاثة أوجه:
أحدها: كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم سَهْم الصَّفيّ.
الثاني: أنَّ الولي يجوزُ له أن يأخذَ من الْمَغْنَمِ ما شاء، وهذا رُكْنٌ عظيم وأمر مشكل، بيانُه في سورة الأنفال إن شاء الله.
الثالث: في الصحيح، واللفظ لمسلم، عن عبدالله بن مغفل قال: أصبْتُ جراباً من شَحْمٍ يوم خَيْبَر فالتزمته، وقلت: والله لا أُعْطِي اليوم أحداً شيئاً من هذا، فالتفتّ فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتبسم. قال علماؤنا: تبسّمُ النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أنه رَأَى حقّاً من أخذ الجراب وحقاً من الاستبداد به دون الناس، ولو كان ذلك لا يجوز لم يتبسم منه ولا أقرَّهُ عليه، لأنه لا يُقِرُّ على الباطل إجماعاً كما قرَّرْناه في الأصول.
المسألة الثامنة: إذا ثبت الاشتراكُ في الغنيمة، فمن غصَبَ منها شيئاً أدِّب، فإن وطء جارية أو سرق نصاباً فاختلف العلماءُ في إقامة الحدّ عليه، فرأى جماعةٌ أنه لا قَطْع عليه، منهم عبد الملك من أصحابنا، لأنَّ له فيه حقاً وكان سهمُه كالمشترك المعين.
قلنا: الفرقُ بين المطلق والمعين ظاهر، والدليل عليه بيت المال، وقد منع بيت المال، وقال: لا يقطع مَن سَرَق منه، وقد قال يقطع، وفَرْق بينهما، فقال: إنّ حظَّه في المغنم يورَث عنه وحظّه في بيت المال لا يورث عنه، وهي مشكلة بيناها في الإنصاف.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الغلول من أعظم موجبات الخذلان أو أعظمها. والنزاهة عنه من أعظم موجبات النصر، كان أنسب الأشياء تعقيب هذه الآية بآية الغلول بياناً، لأنه كان سبب هزيمتهم في هذه الغزوة، فإنه لا يخذل إلا بالذنوب، ومن أعظم الذنوب الموجبة للخذلان الغلول، فيكون المراد بتنزيهه صلى الله عليه وسلم عنه -والله أعلم- أن إقبالهم عن نهب الغنائم قبل وقته إما أن يكون لقصد أن يغلو بإخفاء ما انتهبوه أو بعضه، وإما أن يكون للخوف من أن يغل رئيسهم وحاشاه! وإما أن يكون للخوف من مطلق الخيانة بأن لا يقسمه صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، وحاشاه من كل من ذلك! وأما المبادرة إلى النهب لغير هذا القصد فخفة وطيش وعبث، لا يصوب عاقل إليه؛ إذا تقرر هذا فيمكن أن يكون التقدير: فليتوكلوا في كبت العدو وتحصيل ما معه من الغنائم، فلا يقبلوا على ذلك إقبالاً يتطرق منه احتمال لظن السوء بهاديهم في أن يغل، وهو الذي أخبرهم بتحريم الغلول وبأنه سبب للخذلان، وما نهى صلى الله عليه وسلم قط عن شيء إلا كان أول تارك له وبعيد منه وما كان ينبغي لهم أن يفتحوا طريقاً إلى هذا الاحتمال فعبر عن ذلك بقوله عطفاً على وكأين من نبي} [آل عمران: 146] {وما كان} أي ما تأتى وما صح في وقت من الأوقات ولا على حالة من الحالات {لنبي} أي أي نبي كان فضلاً عن سيد الأنبياء وإمام الرسل {أن يغل} تبشيعاً لفعل ما يؤدي إلى هذا الاحتمال زجراً من معاودة مثل ذلك الفعل المؤدي إلى تجويز شيء مما ذكر، وعلى قراءة الجماعة غير ابن كثير وأبي عمرو -بضم الياء وفتح العين مجهولاً من: أغل- المعنى: وما كان له وما صح أن يوجد غالاً، أو ينسب إلى الغلول، أو يظن به ما يؤدي إلى ذلك؛ ويجوز أن يكون التقدير بعد الأمر بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وحده: فلا تأتوا إن كنتم مؤمنين بما يقدح في التوكل كالغلول وما يدانيه فتخذلوا، فإنه ما كان لكم أن تغلوا، وما كان أي ما حل لنبي أي من الأنبياء قط أن يغل، أي لم أخصكم بهذه الشريعة بل ما كان في شرع نبي قط إباحة الغلول، فلا تفعلوه ولا تقاربوه بنحو الاستباق إلى النهب، فإن ذلك يسلب كمال التوكل، فإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، فيوجب له الخذلان...
ولما كان فعلهم ذلك محتملاً لقصدهم الغلول ولخوفهم من غلول غيرهم عمم في التهديد بقوله: {ومن يغلل} أي يقع منه ذلك كائناً من كان {يأت بما غل يوم القيامة}... ولما كان ثمرة الإتيان به الجزاء عليه عمم الحكم تنبيهاً على أن ذلك اليوم يوم الدين، فلا بد من الجزاء فيه وتصويراً له تبشيعاً للفضيحة فيه بحضرة الخلق أجمعين، وزاد في تعظيمه وتعظيم الجزاء فيه بأداة التراخي وتضعيف الفعل فقال معمماً الحكم ليدخل الغلول من باب الأولى: {ثم توفى} أي في ذلك اليوم العظيم، وبناه للمجهول إظهاراَ لعظمته على طريق كلام القادرين {كل نفس} أي غالة وغير غالة {ما كسبت} أي ما لها فيه فعل ما من خير أو شر وافياً مبالغاً في تحريز وفائه {وهم لا يظلمون} أي لا يقع عليهم ظلم في شيء منه بزيادة ولا نقص...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذهب بعض المفسرين إلى أن الغل أو الغلول المنفي هنا هو إخفاء شيء من الوحي وكتمانه عن الناس لا الخيانة في المغنم، وإن كان ما بعده عاما في كل غلول أو خاصا بالغنيمة فإنه جيء به للمناسبة كما عهد في مناسبات القرآن وانتقاله من حكم إلى حكم أو خبر له حكمة. وذكروا أنه نزل ردا على من رغب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ان يترك النعي على المشركين...
قال الأستاذ الإمام: ومن مناسبة كون الغل بمعنى الكتمان وإخفاء بعض التنزيل ما تقدم من أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة بمعاتبة من كان معه في أحد وتوبيخهم على ما قصروا، وذلك مما يصعب تبليغه عادة لأنه يشق على المبلغ والمبلغ، ومن أمره صلى الله عليه وسلم بالعفو والاستغفار لهم ومشاورتهم في الأمر على ما كان منهم، وفي هذا إعلاء لشأنهم ومعاملة لهم بالمساواة في مثل هذه الشؤون، وذلك مما عهد في طباع البشر أن يشق على الرئيس منهم إبلاغه للمرؤوسين.
ويزداد على ما ذكره الأستاذ الإمام لما تقدم هذا السياق في قوله تعالى له: (ليس لك من الأمر شيء) عندما لعن أبا سفيان ومن كان معه من رؤوس المشركين. كأنه تعالى يقول إعلاما للناس بما يجب للأنبياء عليهم السلام في أمر التبليغ: ما كان من شأن نبي من الأنبياء أن يكتم شيئا مما أمر بتبليغه وإن كان مما يشق على الناس في حكم العادة ذكره وتبليغه...
ولما كان الجزاء يترتب على علم الله بالأعمال وإعلامه العاملين بها يوم الحساب قال بعدما مر (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) أي ثم أنه بعد أن يأتي الغال بما غل، كما يأتي كل عامل بما عمل، فيمتثل لديه، كأنه حاضر بين يديه، ينظر إليه بعينه، (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) [آل عمران: 30] ومثال الذرة من الخير والشر مرئيا مبصرا، بعد هذا تنال جزاء ما كسبت متوفى تاما لا تنقص منه شيئا (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها!! ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) [الكهف: 49]...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{ثم توفى كل نفس ما كسبت} الغال وغيره، كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه، {وهم لا يظلمون} أي: لا يزاد في سيئاتهم، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم، وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة. لما ذكر عقوبة الغال، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا.. أي أن يحتجزوا شيئا من الأموال والغنائم أو يقسموا لبعض الجند دون بعض، أو يخونوا إجمالا في شيء: (وما كان لنبي أن يغل).. ما كان له. فهو ليس من شأنه أصلا ولا من طبعه ولا من خلقه. فالنفي هنا نفي لإمكان وقوع الفعل. وليس نفيا لحله أو جوازه. فطبيعة النبي الأمينة العادلة العفيفة لا يتأتى أن يقع منها الغلول ابتداء.. وفي قراءة:"يغل" على بناء الفعل لغير الفاعل. أي لا يجوز أن يخان. ولا أن يخفي عنه أتباعه شيئا.. فيكون نهيا عن خيانة النبي في شيء. وهو يتمشى مع عجز الآية. وهي قراءة الحسن البصري. ثم يهدد الذين يغلون، ويخفون شيئا من المال العام أو من الغنائم، ذلك التهديد المخيف: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة. ثم توفى كل نفس ما كسبت، وهم لا يظلمون)... وقد عملت هذه الآية القرآنية الكريمة... عملها في تربية الجماعة المسلمة؛ حتى أتت بالعجب العجاب؛ وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره، كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية. وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة، لا يراه أحد، فيأتي به إلى أميره، لا تحدثه نفسه بشيء منه، خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب، وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة! فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلا. وكانت الآخرة في حسه واقعا، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها. وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه. فالآخرة كانت حقيقة يعيشها، لا وعدا بعيدا! وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت، وهم لا يظلمون... وقد حملت الغنائم إلى عمر -رضي الله عنه- بعد القادسية، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن.. فنظر -رضي الله عنه- إلى ما أداه الجند في غبطة وقال: "إن قوما أدوا هذا لأميرهم لأمناء".. وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأظهر أنَّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض على الغرض وموقعه عقب جملة: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} [آل عمران: 160]. الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذْل بيده، وذلك يستلزم التَّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفاً بمن يُرضونه. وإذ قد كانت هذه النَّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات، وهو الغُلول ليعلموا أنّ ذلك لا يُرضي الله تعالى فيحذَروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذراً فهذه مناسبة التَّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أُحُد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم...
ومن اللَّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ: أنّ مَزْيَداً رجلاً من الأعراب سرق نافجة مسك فقيل له: كيفَ تسرقها وقد قال الله تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة}؟ فقال: إذَنْ أحمِلُها طيّبةَ الريح خفيفة المحمل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الكلام في غزوة أحد وما فيها من عبر وما بينه الله سبحانه وتعالى من أحكام لمناسبة ما كان فيها، وفي هذه الآيات يبين ما يجب من مراعاة الأمانة بالنسبة للغنائم في الحروب، ذلك أن الرماة الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم قد خالفوه لأنهم خشوا أن ينفرد المقاتلون بالغنيمة دونهم؛ إذ ظنوا أن من يستولي على شيء فهو له، وهم بموقفهم موقف الحراسة لظهور المقاتلين سيحرمون إن لم يقاتلوا، فبينت هذه الآيات بالإشارة أنه لا قسمة قبل انتهاء المعركة، وأن الغنيمة لا يختص بها فريق دون فريق، وأن الغنيمة نتيجة النصر، والنصر ثمرة تعاون الجميع، فحق أن تقسم الثمرة على الجميع، ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرماة:"أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم".
وإن الله سبحانه وتعالى يسن الأحكام العامة للمناسبات الخاصة، ليكون السبب موضحا للحكم، وإن كان الحكم عاما، ولذا قال سبحانه: {و ما كان لنبي ان يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة}.
ابتدأ سبحانه بنفي وصف الغلول، وهو الخيانة في الغنائم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لبيان أن التسوية في القسمة مطلوبة من الجميع لا فرق في ذلك بين قائد وقائد، ولو كان أحد يسوغ له ألا يسوي في القسمة لما كان رسول رب العالمين، ولكنه أول من ينفى عنه هذا الوصف، ولأن الرماة تعجلوا خشية ألا يأخذوا، فبين الله لهم أن عدم تسويتهم في الغنيمة غلول، وما كان الغلول من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيان أن عدم توزيع الغنيمة بالعدل خيانة، فلا يستكبر قائد عن أن يوصف بها إذا وقع منه عدم التسوية.
ومعنى قول الله تعالى: {وما كان لنبي أن يغل} ما ساغ وما صح لنبي أن يخون، فالنفي هنا نفي للشأن، أي ليس من شأن النبي أن يخون، والتنكير هنا للتعميم، فليس من شأن أي نبي يتكلم عن الله تعالى أن يخون، وإذا كان التنكير للتعميم لأنه تنكير في مقام النفي، فمؤدى الكلام أن النبوة والغلول نقيضتان لا يجتمعان، فما كان لأحد أن يظن أن النبي سوف لا يقسم بالسوية، وإذا وقع ذلك الظن فهو من الظن الإثم: {إن بعض الظن إثم...12} [الحجرات].
وأصل الغلول من الغلل، وهو دخول الماء في وسط الشجر كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني، وسميت الخيانة في الغنيمة غلولا؛ لأنها تدخل الملك من غير حله وفي خفاء، كجريان الماء بين الأشجار في خفاء، ويقال تغلغل في الشيء دخل فيه واختفى، ويطلق الغِل -بكسر الغين- على الحقد لأنه يكون دفينا متغلغلا في كيان النفس الإنسانية ويفسدها.
وإن المعنى الذي يجري عليه جمهور المفسرين بأن المراد بالغلول المنفى عن الرسول وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هو الغلول المادي في شئون المادة، ولم تتعرض الآية الكريمة للغلول المعنوي وهو كتمان ما أنزل الله تعالى وعدم بيانه؛ ولكن قال بعض العلماء: إن الغلول المنفي عن الأنبياء هو كتمان ما أنزل الله تعالى وعدم بيانه؛ لأن الغلول المادي غير متصور الوقوع، ولكن السياق لا يؤيد هذا المعنى؛ لأن السياق كله فيما قبله وما بعده يدل على أنه في الحرب وما يتعلق بها من غنائم أغرت الرماة وأخرجتهم من محارسهم؛ ولما يجيئ بعد ذلك من تعميم الحكم لكل من يغل غير الأنبياء من حيث إنه يأتي بما غل يوم القيامة؛ ولذلك قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة}.
والمعنى ان من يخون في الغنائم أو غيرها بأن يكون ذا سلطان على مال، فيخص نفسه منه بما شاء يأتي يوم القيامة مأخوذا بإثم ما غل يوم القيامة، صغيرا كان أو كبيرا، حقيرا كان أو خطيرا، فالمراد على التفسير من قوله سبحانه: {بما غل} وزره؛ وذلك كقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره7 ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره8} [الزلزلة] فما يراه الإنسان يوم القيامة هو عمله المبرور وعمله الموزور، وأما موضوع العمل فلا وجود له، إذ هو يرى الوزر أو يرى البر. وظاهر كلام المفسرين أنه يرى ذات الشيء الذي غله، لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: "لا ألفين أحدكم يجيئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيئ يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك.. "فإن ظاهر هذا الحديث أن موضوع الغلول يجيئ بذاته يوم القيامة، ومثل ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الغلول في جمع الصدقات، فقد روي ان رجلا اسمه ابن اللتبية جمع الصدقات، ثم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال:"ما بال العامل نبعثه، فيجيئ، فيقول هذا لكم، وهذا أهدي لي، ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدي له أم لا. لا يأتي أحد منكم بشيء إلا جاء به يوم القيامة، إن كان بعيرا فله رغاء، أو بقرة فلها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت".
والذي نراه أن هذه الأحاديث إنما هي تصوير لما يكون يوم القيامة من أن وزره يكون قائما بين يديه، صور ما وقع وموضوع أوزاره تكون قائمة في كتابه كأنها حاضرة بأعيانها، هذا هو الذي تدل عليه الألفاظ، ولا نقول عن حضور ذات الأشياء مستحيل على الله، فإن الله على كل شيء قدير، ولكن نقول: إن ذلك هو ما يؤدي إليه الذوق البياني العربي، وإن ذلك يومئ إلى دقة الحساب، وقيام الموازين بالقسط. ثم بين سبحانه نتيجة هذا الحساب، فقال سبحانه: {ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
وبعد الحساب العسير لهؤلاء الذين يأكلون الأموال بالباطل، ويغلون في الغنائم؛ ويغلون في أموال الدولة- يوفون جزاء ما كسبوا من غير ظلم، وفي النص الكريم عدة إشارات بيانية، الأولى: التعبير ب (ثم) وهي تفيد التراخي بين إحضار الأعمال بأوزارها ثم يتولى جزاءها؛ فإن هذا التراخي يفيد طول الحساب، وطول الحساب عذاب في ذات نفسه، وهو في الوقت ذاته يدل على دقته إذ تقام الموازين بالقسط. والثانية: التعبير ب (توفى) فإن فيه إشارة إلى انه لا ينقص شيء مما عملت عن خيرا وإن شرا، إلا أن يتغمده الله برحمته فيعفو عن بعض السيئات وهو العفو الغفور، والثالثة: أنه عبر سبحانه وتعالى عن المساواة بين العمل والجزاء بقوله سبحانه {ما كسبت} فإن هذا التعبير يفيد بظاهره أن الوفاء يكون بالعمل ذاته، ولكن المعنى: جزاء ما كسبت ولكنه سبحانه عبر بهذا التعبير للدلالة على كمال المساواة بين العمل وجزائه، حتى كان الجزاء هو العمل ذاته، والرابعة: قوله تعالى: {وهم لا يظلمون} فيه تأكيد للمساواة وفيه أيضا نفى للظلم نفيا مؤكدا بالتعبير بالجملة الاسمية، إذ المعنى أنهم ليس من شانهم أن يظلموا؛ لأن الله تعالى خالقهم والله تعالى لا يظلم مطلقا؛ لأنه لا يليق بكماله تعالى، ولأنه كتب العدل على نفسه، كما ورد في الحديث القدسي.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[وما كان لنبيّ أن يغُلَّ] فإنَّ النبوّة لا تجتمع مع الخيانة، لأنَّها لا تناسب النبوّة التي هي أمانة اللّه عند النبيّ في تبليغ رسالته وفي تطبيق منهجه وفي الحكم بين النَّاس، فهو الذي أراد اللّه أن يؤكّد خطّ الأمانة في الحياة ليكون القدوة للنَّاس في ذلك كلّه في جميع أمورهم، وربَّما كان من أظهر مصاديق هذا المبدأ كتمان الوحي، انسجاماً مع طلب المشركين منه إخفاء الآيات التي تندّد بدينهم وتسبّ آلهتهم كما جاء في بعض روايات النزول فهي خيانة للّه في رسالته، وللأمّة في إخفاء الحقيقة عنها، فلا بُدَّ من أن يؤدّي الرسالة كاملة غير منقوصة...
ربَّما كانت الآية كما أشرنا إليه واردةً في مجال تقرير المبدأ، ليشعر المسلمون بالثقة المطلقة من خلال الثقة بعصمة القيادة، فيكون ذلك أقرب لخطّ الالتزام، وأدعى للانضباط، وأقوم للثبات، وأكثر تأكيداً لنقد الموقف الذي وقفوه لأنَّه لا يتناسب مع هذا المبدأ... وقد نستشعر من الآية الإيحاء بأنَّ قضية رفض الخيانة من النبيّ، ليست خصوصيّة للنبيّ، بل هي قضية المبدأ الذي يتحرّك في خطّ النبوّة، ما يجعل منه شيئاً غير مناسب له، على أساس منافاته للرسالة التي يدعو إليها، وللإخلاص للّه باعتبار أنَّها تمثِّل تمرّداً على اللّه... وفي ضوء ذلك، أكملت الآية الفكرة بالإيحاء بالجوّ الشامل الذي يحكم النبيّ ويحكم الآخرين في مواقف الحساب، كما توحي به هذه الفقرة من الآية: [وما كان لنبيّ أن يَغُلَّ ومن يغلُل يأتِ بما غلَّ يوم القيامة ثُمَّ توفى كلُّ نفس ما كسبت] فإنَّ الخيانة في الدُّنيا لا تنتهي مسؤوليتها بانتهاء الدُّنيا، بل يقف الخائن يوم القيامة ليتحمّل مسؤولية ذلك كلّه، فيحمل ما خانه بين يديه، وذلك على سبيل الكناية عن الإثم والتبعيّة والمسؤولية، وهناك الحكم الذي يمنح كلّ إنسان جزاء ما اكتسبه من خير أو شرّ، [وهم لا يظلمون]... وهكذا تريد الآية أن توحي بأنَّ المسؤولية لن تستثني أيّ إنسان، مهما كانت درجته ولو كان نبيّاً، فكلّ العباد مكلّفون برفض الخيانة، بما فيهم النبيّ (ص)، لأنَّ الامتيازات ملغاة في هذا المجال، فلا يحقّ لأحد أن يتمرّد على القانون من خلال درجته الروحية والاجتماعية، كما هو الحال في واقع النَّاس المعاش، وبذلك تتمّ للفكرة حركتها العملية في خطّ العدالة في حياة النَّاس، وتتوضح للقاعدة الشعبيّة طبيعة القيادة في أمانتها وإخلاصها وعصمتها عن كلّ ألوان الخيانة، على أساس النظرية والتطبيق معاً...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بالنظر إلى الآية السابقة التي نزلت بعد الآيات المتعلقة بوقعة «أُحد» وبالنظر إلى رواية نقلها جمع من مفسري الصدر الأول، تعتبر هذه الآية رداً على بعض التعللات الواهية التي تمسك بها بعض المقاتلين، وتوضيح ذلك هو: إن بعض الرماة عندما أرادوا ترك مواقعهم الحساسة في الجبل لغرض جمع الغنائم، أمرهم قائدهم بالبقاء فيها، لأن الرسول لن يحرمهم من الغنائم، ولكن تلك الجماعة الطامعة في حطام الدنيا اعتذرت لذلك بعذر يخفي حقيقتهم الواقعية، إذ قالوا: نخشى أن يتجاهلنا النبي عند تقسيم الغنائم فلا يقسم لنا، قالوا هذا وأقبلوا على جمع الغنائم تاركين مواقعهم التي كلفهم الرسول بحراستها فوقع ما وقع من عظائم الأُمور وجلائل المصائب.
فجاء القرآن يرد على زعمهم وتصورهم هذا فقال: (وما كان لنبي أن يغل 141) أي أنكم تصورتم وظننتم أن النبي يخونكم، والحال أنه ليس لنبي أن يغل ويخون أحداً.
إن الله سبحانه ينزه في هذه الآية جميع الأنبياء والرسل من الخيانة، ويقول إن هذا الأمر لا يصلح أساساً للأنبياء، ولا يتناسب أساساً مع مقامهم العظيم.
يعني أن الخيانة لا تتناسب مع النبوة، فإذا كان النبي خائناً لم يمكن الوثوق به في أداء الرسالة وتبليغ الأحكام الإلهية.
وغير خفي أن هذه الآية تنفي عن الأنبياء مطلق الخيانة سواء الخيانة في قسمة الغنائم أو حفظ أمانات الناس وودائعهم، أو أخذ الوحي وتبليغه للعباد.
ومن العجيب أن يثق أحد بأمانة النبي في الحفاظ على وحي الله، وتبليغه وأدائه، ثمّ يحتمل والعياذ بالله أن يخون النبي في غنائم الحرب، أو يقضي بما ليس بحق، ويحكم بما ليس بعدل، ويحرم أهلها منها من غير سبب.
إن من الوضوح بمكان أن الخيانة محظورة على كلّ أحد، نبياً كان أو غير نبي، ولكن حيث إن الكلام هنا يدور حول اعتذار تلك الجماعة المتمردة وتصوراتهم الخاطئة حول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك تتحدث الآية عن الأنبياء أولاً، ثمّ تقول: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) أي أن كلّ من يخون سيأتي يوم القيامة وهو يحمل على كتفه وثيقة خيانته، أو يصحبه معه إلى المحشر، وهكذا يفتضح أمام الجميع، وتنكشف أوراقه وتعرف خيانته.
قال بعض المفسّرين أن المراد من حمل الخيانة على الظهر أو استصحاب ما غلّ يوم القيامة ليس هو أنه يحمل كلّ ذلك حملاً أو يستصحبه استصحاباً حقيقياً معه يوم القيامة، بل المراد هو أنه يتحمل مسؤولية ذلك، ولكن بالنظر إلى مسألة «تجسم الأعمال» في يوم القيامة لا يبقى أي مبرر ولا أي داع لهذا التفسير، بل وكما يدلّ عليه ظاهر الآية ويشهد به يأتي الخائن وهو يحمل عين ما غل كوثيقة حية تشهد على خيانته وغلوله، أو يستصحبها معه.
(ثمّ توفى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) يعني أن الناس يجدون عين أعمالهم هناك، ولهذا فهم لا يظلمون لأنه يصل إلى كلّ أحد نفس ما كسبه خيراً كان أو شراً.
ولقد أثّرت الآية السابقة، والأحاديث التي صدرت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تذم الخيانة والغلول في نفوس المسلمين وخلقهم تأثيراً عجيباً حتّى أنهم نتيجة لهذه التربية لم يصدر عنهم أقل خيانة ولا أدنى غلول في غنائم الحرب أو الأموال العامة، إلى درجة أنهم كانوا يأتون بالغنائم الغالية الثمن الصغيرة الحجم التي كان من السهل إخفاؤها إلى النبي، أو القادة من بعده دون أي تصرف فيها، الأمر الذي يدعو إلى الدهشة والإكبار والعجب.
فقد كان هؤلاء نفس أُولئك العرب القساة، الجفاة، المغيرون، السلابون قطاع الطرق في الجاهلية، وقد أصبحوا الآن في ظل التربية الإسلامية في قمة الصلاح والأمانة، وفي ذروة الاستقامة والطهر، والتُقى وكأنهم يرون مشاهد القيامة بأم أعينهم، كيف يقدم الخائنون في الأموال والأمانات إلى المحشر وهم يحملون على أكتافهم وظهورهم ما غلوه وخانوه.
أجل لقد كان هذا الإيمان يحذرهم من الخيانة، بل يصرفهم حتّى عن التفكير فيها.
كتب الطبري في تاريخه أنه لما هبط المسلمون بالمدائن، وجمعوا الأقباض (الغنائم) أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: «أما والله لولا الله ما آتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا من أنت؟ فقال: و الله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه».