قوله تعالى : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ، ومن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها .
أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ، أنا أحمد بن محمد بن أبي حمزة البلخي ، حدثنا موسى بن محمد بن الحكم الشطوي ، حدثنا حفص بن غياث ، عن طلحة بن يحيى ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : " أدرك النبي صلى الله عليه وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار ، فقال عائشة : طوبى له عصفور من عصافير الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك ؟ أن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم " . ؟
وقيل : اللام في قوله { لجهنم } لام العاقبة ، أي : ذرأناهم ، وعاقبة أمرهم جهنم ، كقوله تعالى { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً و حزناً } [ القصص :8 ] ، ثم وصفهم فقال : { لهم قلوب لا يفقهون بها } ، أي لا يعلمون بها الخير والهدى .
قوله تعالى : { ولهم أعين لا يبصرون بها } ، طريق الحق وسبيل الرشاد .
قوله تعالى : { ولهم آذان لا يسمعون بها } مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون بها ، ثم ضرب لهم مثلاً في الجهل والاقتصار على الأكل والشرب .
قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بل هم أضل } أي : كالأنعام في أن همتهم في الأكل والشرب ، والتمتع بالشهوات ، بل هم أضل ، لأن الأنعام تميز بين المضار والمنافع ، فلا تقدم على المضار ، وهؤلاء يقدمون على النار معاندةً مع العلم بالهلاك .
179 وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ .
يقول تعالى مبينا كثرة الغاوين الضالين ، المتبعين إبليس اللعين : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا أي : أنشأنا وبثثنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ صارت البهائم أحسن حالة منهم .
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا أي : لا يصل إليها فقه ولا علم ، إلا مجرد قيام الحجة .
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا ما ينفعهم ، بل فقدوا منفعتها وفائدتها .
وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا سماعا يصل معناه إلى قلوبهم .
أُولَئِكَ الذين بهذه الأوصاف القبيحة كَالأنْعَامِ أي : البهائم ، التي فقدت العقول ، وهؤلاء آثروا ما يفنى على ما يبقى ، فسلبوا خاصية العقل .
بَلْ هُمْ أَضَلُّ من البهائم ، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له ، ولها أذهان ، تدرك بها ، مضرتها من منفعتها ، فلذلك كانت أحسن حالا منهم .
أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الذين غفلوا عن أنفع الأشياء ، غفلوا عن الإيمان باللّه وطاعته وذكره .
خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار ، لتكون عونا لهم على القيام بأوامر اللّه وحقوقه ، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود .
فهؤلاء حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها ، فخلقهم للنار ، وبأعمال أهلها يعملون .
وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه ، وانصبغ قلبه بالإيمان باللّه ومحبته ، ولم يغفل عن اللّه ، فهؤلاء ، أهل الجنة ، وبأعمال أهل الجنة يعملون .
{ ولقد ذرأنا } خلقنا . { لجهنم كثيرا من الجن والإنس } يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى . { لهم قلوب لا يفقهون بها } إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله . { ولهم أعين لا يبصرون بها } أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار . { ولهم آذان لا يسمعون بها } الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر . { أولئك كالأنعام } في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر ، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها . { بل هم أضلّ } فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار ، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها ، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار . { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة .
وصفت هذه الصنفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله بأن قلوبهم لا تفقه ، والفقه الفهم ، وأعينهم لا تبصر ، وآذانهم لا تسمع ، وليس الغرض من ذلك نفي هذه الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها في جهة ما كما تقول : فلان أصم عن الخنا .
ومنه قول مسكين الدارمي : [ الكامل أحذ مضمر ]
أعمى إذا ما جارتي خرجت*** حتى يواري جارتي السترُ
وأصم عمّا كان بينهما*** عمداً وما بالسمعِ من وَقْرِ
وعوراء الكلام صممت عنها*** ولو أني أشاء بها سميع
وبادرة وزعت النفس عنها*** وقد بقيت من الغضب الضلوع
ومنه قول الآخر في وصاة من يدخل إلى دار ملك : [ مخلع البسيط ]
وادخل إذا ما دخلت أعمى*** واخرج إذا ما خرجت أخرسْ
فكأن هؤلاء القوم لما لم ينفعهم النظر بالقلب ولا بالعين ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ استوجبوا الوصف بأنهم { لا يفقهون } و { لا يبصرون } و { لا يسمعون } وفسر مجاهد هذا بأن قال : لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة وأعين لا يبصرون بها الهدى وآذان لا يسمعون بها الحق ، و { أولئك } إشارة إلى من تقدم ذكره من الكفرة وشبههم بالأنعام في أن الأنعام لا تفقه قلوبهم الأشياء ولا تعقل المقاييس ، وكذلك ما تبصره لا يتحصل لها كما يجب ، فكذلك هؤلاء ما يبصرونه ويسمعونه لا يتحصل لهم منه علم على ما هو به حين أبصر وسمع ، ثم حكم عليهم بأنهم { أضل } ، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها لا تقصر في شيء ولا لها سبيل إلى غير ذلك ، وهؤلاء معدون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرقاً في النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا ، ثم بين بقوله : { أولئك هم الغافلون } الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام وهو الغفلة والتقصير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.