فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ} (179)

{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي خلقنا . وقد تقدّم بيان أصل معناه مستوفى ، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، { لِجَهَنَّمَ } أي : للتعذيب بها { كَثِيراً } أي خلقاً كثيراً { مّنَ الجن والإنس } أي من طائفتي الجنّ والإنس ، جعلهم سبحانه للنار بِعَدْلِه ، وبعمل أهلها يعملون . وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم ، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، ثم وصف هؤلاء فقال : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } كما يفقه غيرهم بعقولهم . وجملة { لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } في محل رفع على أنها صفة لقلوب . وجملة { لَهُمْ قُلُوبٌ } في محل نصب صفة لكثيراً جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم ، غير فاقهة مطلقاً ، وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم ، وهكذا معنى { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } فإن الذي انتقى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار ، وإن كانت مبصرة في غير ذلك ، والذي انتقى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة ، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة . وما جاءت به رسل الله ، وإن كانوا يسمعون غير ذلك . والإشارة بقوله : { أولئك } إلى هؤلاء المتصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر ، ثم حكم عليهم بأنهم أضلّ منها ، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرّها ، فتنتفع بما ينفع ، وتجتنب ما يضرّ ، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضرّ باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به ، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هو عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } قال : خلقنا . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن الحسن في الآية قال خلقنا لجهنم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن النجار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم » وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } قال : لقد خلقنا لجهنم { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } قال : لا يفقهون شيئاً من أمور الآخرة { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } الهدى { وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسمَعُونَ بِهَا } الحق ، ثم جعلهم كالأنعام ، ثم جعلهم شراً من الأنعام ، فقال : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ثم أخبر أنهم الغافلون .