الآية 179 وقوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } قالت المعتزلة : لم يخلقهم الله تعالى لجهنم ، ولكن حلقهم ، وذرأهم ، وأعطاهم من القوة ما يكسبون الجنة ، غير أنهم عملوا أعمالا استوجبوا بها النار ، فصاروا للنار بما عملوا من الأعمال ، لا أن خلقهم لجهنم .
ثم اختلفوا هم في تأويل{[9147]} قوله : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } قال بعضهم : ذكر بما إليه آلت عاقبة أمرهم كقوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزنا } [ القصص : 8 ] لم يلتقطوه ليكون لهم ما ذكر ، ولكن إنما التقطوه ليكون لهم ما ذكر كقوله تعالى : { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } [ القصص : 9 ] لهذا التقطوه ، لكنه صار لهم ما ذكر . أخبر عما إليه آل أمره . فعلى ذلك هذا ، وكما يقال : لدوا للموت ، وابنوا للخراب ، ولا أحد يلد للموت ، ولا يبني للخراب ، ولكنه إنباء عما{[9148]} تؤول إليه عاقبة أمره من الموت والخراب .
إلى هذا يذهب عامة المعتزلة . وقال أبو بكر الأصمّ : الآية على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : ولقد ذرأنا كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون ، ولهم أعين لا يبصرون ، ولهم آذان لا يسمعون بها : أولئك لجهنم وأولئك كالأنعام .
لكن هذا بعيد لأنه لو جاز هذا في هذا لجاز مثله في جميع القرآن أن يجعل أول الآية في آخرها وأخرها في أولها ، فهذا محال .
وأما قولهم : أنه إخبار عما إليه آلت عاقبة أمرهم ، واستشهادهم بقوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم } [ القصص : 8 ] كذا فهو يصلح لمن{[9149]} يجهل عواقب الأمور ، يخرج ذلك منه على التنبيه والإيقاظ لما لم يعرفوا عاقبة ما صار إليه الأمر .
فأما الله ، سبحانه ، عالم السر والعلانية وما كان ، ويكون في الأوقات التي يكون ، فلا{[9150]} يحتمل ذلك ؛ وقول الناس : لدوا للموت ، وابنوا للخراب فهو إنما يذكرون هذا عند التنبيه والإيقاظ لجهلهم بعواقب الأمور ، وإن كانوا لا يبنون ولا يلدون للموت والخراب ، وما قصدوا له .
وأما تأويل عندنا على ما ذكر في ظاهر الآية أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس [ لأنه ]{[9151]} أعلم في الأزل أنهم يختارون فعل الكفر والأعمال الخبيثة التي يستوجبون بها النار ؛ خلقهم لجهنم لما علم منهم ذلك في الأزل أنهم يختارون الأعمال الخبيثة ، فذرأهم على ما علم{[9152]} ، منهم ما{[9153]} يختارون ، ويكون منهم .
وكذلك خلق المؤمنين للجنة لما علم في الأزل أنهم يختارون فعل الهدى ، ويعملون أعمالا طيّبة يستوجبون بها الجنة . خلقهم للجنة لا أن خلقهم للجنة مرسلا ، أو خلقهم لجهنم مرسلا ، ولكن لما ذكرنا ، والله أعلم .
وأما قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده ، ويطيعه ، وأما من علم منه أنه يكفر به ، ويعصيه فهو إنما خلقه لما علم [ أن كفره ]{[9154]} يكون منه . فمن كان علم منه في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة ، ومن كان علم منه أنه يكون منه الكفر خلقه لذلك ؛ لأنه لا يجوز أن يعلم منه المعصية وفعل الكفر ، فيخلقه على خلاف ذلك . دل أنه ما ذكرنا ، والله أعلم .
ويحتمل{[9155]} أن يقال : قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] الفريق الذي علم منه العبادة لا الكل . دليله قوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } ولم يقل : ذرأنا الكل . فهذه في فريق ، وهذه في فريق آخر .
وهذا التأويل يرجع إلى الخصوص . ألا ترى أن الصبيان والمجانين لم يدخلوا فيه ؟ أو أن يكون قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] أي إلا لأكلفهم العبادة ، وآمرهم بها . فإن كان هذا فهي على الكل على الكافر والمؤمن جميعا ، والله أعلم .
ويحتمل { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي ما خلقت الجن والإنس إلا لتشهد خلقتهم على وحدانية الله وصرف العبادة إليه . وقد شهدت خلقة كل كافر ومؤمن على وحدانيته وألوهيته .
وقوله تعالى : { لهم قلوب لا يفقهون بها } الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره ، أو معرفة الشيء بمعناه الدال على مدبّره . فهؤلاء الكفرة لم يفقهوا لما لم ينظروا إلى الأشياء لمعناها وحقائقها ، إنما نظروا إلى الأشياء لظواهرها . وكذلك قوله تعالى : { ولهم أعين لا يبصرون بها } لما نظروا إلى ظواهرها لم ينظروا إلى معانيها وحقيقتها ليدلّهم على تدبير منشئها وحكمته . وكذلك قوله تعالى : { ولهم آذان لا يسمعون بها } كما كانت للأنعام قلوب وأعين وآذان ، لكن لا يفقهون معناها وحقيقتها ، وإن كانوا يسمعون النداء ، وينظرون إلى ظواهر الأشياء . فعلى ذلك الكفار ، وإن كانوا يسمعون ، وينظرون ما ذكرنا بعد أن لم يفقهوا معانيها وتدبير مدبّرها . فهم كالأنعام .
وأصله : أنهم لم يستعملوا تلك الحواس في ما جعلت لهم لمعرفة حقائق الأشياء وما أدرج فيها من المعاني والحكمة ، فصاروا في الحقيقة كمن لا حواس له ، أو لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك ، بل كانوا كمن ليس لهم تلك . لذلك نفى عنهم ، والله أعلم .
وقال /191-أ/ قائلون : نفى عنهم هذه الحواس لما لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك ، بل كانوا كمن ليس لهم تلك الحواس للمعنى الذي جعلت تلك الحواس فهم { كالأنعام بل هم أضل } لأن هؤلاء إذا ضلوا الطريق ، فهدوا ، وأرشدوا ، لا يهتدون ، ولا يرجعون عن ذلك ، والدواب إذا ضلّوا الطريق ، فهدوا [ اهتدوا ، ووعوا ]{[9156]} ، ومالوا إليه : فهم أضل من الأنعام لما ذكر ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { بل هم أضل } لأن بنية الأنعام لا تحتمل فهم ذلك ، وبنية هؤلاء تحتمل ، إذ جعل لهم عقولا تميزّ ، وتعرف حكمة مدبّرها ومنشئها ، لكنهم ضيّعوها ، ولم يكن من الأنعام تضييع ، لذلك كان أولئك أضل .
قال ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها } لما ختم الله على قلوبهم كقوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } [ البقرة : 7 ] فمن ثمة لم تفقه قلوبهم ، ولم تبصر أعينهم ، ولم تسمع آذانهم . وقال : ثم ضرب لهم مثلا فقال : { أولئك كالأنعام } في الأكل ، لأن همّهم{[9157]} ليس إلا الأكل والشرب كهمّ{[9158]} الأنعام والبهائم ليس همّهم{[9159]} إلا الأكل والشرب وقضاء الشهوة ؛ فهي تسمع النداء ، ولا تعقل . فعلى ذلك الكافر .
وقوله تعالى : { أولئك كالأنعام } في فهم ما ألقي إليهم { بل هم أضل } لأنهم أعلموا سبب فهم ذلك ، والأنعام لا .
وقوله تعالى : { بل هم أضل } لأن الأنعام تعرف ربها ، وتوحّده ، وتذكره كقول{[9160]} الله تعالى : { وإن من شيء إلا يسبّح بحمده } الآية [ الإسراء : 44 ] وكقوله تعالى : { كل قد علم صلاته وتسبيحه } [ النور : 41 ] وهؤلاء لا يعرفونه ، ولا يوحّدونه ، فهم أضل .
ويحتمل{[9161]} أن يقال : هم أضل ، ولا يهتدون وإن هدوا ، ودعوا ، والأنعام تهتدي . وهم أضل لأنهم يضلون ، ويضلون غيرهم ، والأنعام لا . أو هم أضل لأنهم لا ينتفع بهم ، والأنعام ينتفع بها .
وقوله تعالى : { أولئك هم الغافلون } عن فهم ما ألقي إليهم ، وأمروا به ، وغافلون عما أوعدوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.