بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ} (179)

قوله تعالى :

{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا } يعني : خلقنا لجهنم كثيراً { مّنَ الجن والإنس } فإن قيل : قد قال في آية أخرى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فأخبر أنه خلق الجن والإنس لعبادته . وهاهنا يقول : خلقهم لجهنم . قيل له : قد خلقهم للأمرين جميعاً منهم من يصلح لجهنم فخلقه لها ، ومنهم من يصلح للعبادة فخلقه لها ، ولأن من لا يصلح لشيء لا يخلقه لذلك الشيء . ويقال معنى قوله : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } يعني : إلا للأمر والنهي . ويقال : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } يعني : إلا لكي يمكنهم أن يعبدوا ، وقد بينت لهم الطريق . ويقال : في هذه الآية تقديم وتأخير . ومعناه : ولقد ذرأنا جهنم لكثير من الجن والإنس .

ثم وصفهم فقال تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } يعني : لا يعقلون بها . الحق كما قال في آية أخرى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] ثم قال : { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } يعني : الهدى { وَلَهُمْ آذان لا يسمعون بِهَا } يعني : الهدى .

ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال : { أُوْلَئِكَ كالأنعام } فشبههم بالأنعام لقلة رغبتهم وتغافلهم عن الحق . يعني : إنهم كالأنعام في ذهنهم لا في صورهم . لأنه ليس للأنعام إلا الأكل والشرب ، فهي تسمع ولا تعقل ، كذلك الكافر هو غافل عن الأمر والنهي والوعد والوعيد .

ثم قال : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } سبيلاً يعني : الكفار أخطأ طريقاً من الأنعام ، لأن الأنعام إذا عرفت أنها تركت الطريق رجعت إلى الطريق ، والكفار لا يرجعون إلى الطريق . ولأن الأنعام تعرف ربها ، والكفار لا يعرفون ربهم . ويقال : لمَّا نزلت هذه الآية { أُوْلَئِكَ كالأنعام } تضرعت الأنعام إلى ربها . فقالت : يا ربنا شبهت الكفار بنا ونحن لا ننكر وحدانيتك . فأعذر الله تعالى الأنعام . فقال : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } من الأنعام لأن الأنعام مطيعة لله تعالى . والكفار غير مطيعين لله تعالى .

ثم قال : { أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون } يعني : عن أمر الله تعالى وعما ينفعهم . قال الفقيه أبو الليث : حدثنا أبو جعفر . قال : حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن عبد الله القاري . قال : حدثنا حازم بن يحيى الحلواني . قال : حدثنا الحسين بن الأسود . قال : حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن سنان عن أبي منيب الحمصي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خَلَقَ الله الجِنَّ ثَلاَثَةَ أصْنَافٍ صِنْفاً حَيَّاتٍ وَعَقَارِبَ وَخَشَاشَ الأَرْضِ ، وَصِنْفاً كَالرِّيحِ فِي الهَوَاءِ ، وَصِنْفَاً عَلَيْهِمُ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ ، وَخَلَقَ الله الإنْسَ ثَلاثَةَ أصْنَافٍ صِنْفاً كَالبَهَائِمِ وَهُمُ الكُفَّارُ ، قال : قال الله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وَصِنْفاً آخَرَ أَجْسَادُهُم كَأَجْسَادِ بَنِي آَدَم وَأَرْوَاحُهُم كَأَرْوَاحِ الشَّيَاطِينِ ، وَصِنْفاً فِي ظِلِّ الله يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلَّهُ »