قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } . للحي لكي تعتبروا وتستدلوا . وقيل لكي تنتفعوا .
قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } . قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف : أي ارتفع إلى السماء . وقال ابن كيسان و الفراء وجماعة من النحويين : أي أقبل على خلق السماء . وقيل : قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء .
قوله تعالى : { فسواهن سبع سماوات } . وخلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع .
قوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } . قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي وقالون وهو وهي بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام ، زاد الكسائي و قالون : ثم هو و قالون أن يمل هو .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أي : خلق لكم ، برا بكم ورحمة ، جميع ما على الأرض ، للانتفاع والاستمتاع والاعتبار .
وفي هذه الآية العظيمة{[83]} دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، لأنها سيقت في معرض الامتنان ، يخرج بذلك الخبائث ، فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية ، ومعرفة المقصود منها ، وأنه خلقها لنفعنا ، فما فيه ضرر ، فهو خارج من ذلك ، ومن تمام نعمته ، منعنا من الخبائث ، تنزيها لنا .
وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ اسْتَوَى } ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف ، فيكون معناها ، الكمال والتمام ، كما في قوله عن موسى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت ب " على " كما في قوله تعالى : { ثم استوى على العرش }{[84]} { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت ب " إلى " كما في هذه الآية ، أي : لما خلق تعالى الأرض ، قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها ، وأتقنها ، { وهو بكل شيء عليم } ف { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعلم السر وأخفى .
وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات ، أدل دليل على علمه ، وحكمته ، وقدرته .
{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم . ومعنى { لكم } لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط ، ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها ، لا على وجه الغرض ، فإن الفاعل لغرض مستكمل به ، بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة ، ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة ، فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد . وما يعم كل ما في الأرض ، إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو . وجميعا : حال من الموصول الثاني .
{ ثم استوى إلى السماء } قصد إليها بإرادته ، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء . وأصل الاستواء طلب السواء ، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي : استولى وملك ، قال :
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق
والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء ، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية ، أو جهات العلو ، و{ ثم } لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } لا للتراخي في الوقت ، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها ، إلا أن تستأنف بدحاها مقدرا لنصب الأرض فعلا آخر دل عليه { أأنتم أشد خلقا } مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر .
{ فسواهن } عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور . و{ هن } ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع . أو هو في معنى الجمع ، وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم : ربه رجلا .
{ سبع سماوات } بدل أو تفسير . فإن قيل : أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك ؟ قلت : فيما ذكروه شكوك ، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف .
{ وهو بكل شيء عليم } فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالما بكنه الأشياء كلها ، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع ، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب ، والترتيب الأنيق كان عليما ، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع ، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم ، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تبددت ، وتفتتت أجزاؤها ، واتصلت بما يشاكلها ، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان ، ونظيره قوله تعالى : { وهو بكل خلق عليم } .
وعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات ، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين : أما الأولى فهي : أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله : { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم } فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها ، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير . وأما الثانية والثالثة : فإنه عز وجل عالم بها وبمواقعها قادر على جمعها وإحيائها ، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقا وأعجب صنعا فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم ، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقا مستويا محكما من غير تفاوت واختلال مراع فيه مصالحهم وسد حاجاتهم . وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته . وقد سكّن نافع وأبو عمرو والكسائي : الهاء من نحو فهو وهو تشبيها له بعضد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.