محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم 29 } .

{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى . وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ، ويتم به معاشهم . ومعنى { لكم } لأجلكم ، ولانتفاعكم . وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل . ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر . وفي التأكيد بقوله : { جميعا } أقوى دلالة على هذا . { ثم استوى إلى السماء } قال أبو العالية الرياحي : استوى إلى السماء أي : ارتفع . نقله عنه البخاري في ( صحيحه ) {[537]} ، ورواه محمد بن جرير الطبريّ{[538]} في ( تفسيره ) عن الربيع بن أنس . / وقال البغويّ : قال ابن عباس وأكثر المفسرين : ارتفع إلى السماء . وقال الخليل بن أحمد في { ثم استوى إلى السماء } : ارتفع . رواه أبو عمرو ابن عبد البر في ( شرح الموطّأ ) ، نقله الذهبي في ( كتاب العلوّ ) . وقد استدل بقوله : { ثم استوى } على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، وكذلك الآية التي في ( حم السجدة ) . وقوله تعالى في سورة ( والنازعات ) { والأرض بعد ذلك دحاها } {[539]} إنما يفيد تأخر دحوّها ، لا خلق جرمها ؛ فإن خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء . ودحوّها بعد خلق السماء . والدحوّ هو البسط ، وإنبات العشب منها ، وغير ذلك . مما فسره قوله تعالى : { أخرج منها ماءها ومرعاها } {[540]} الآية وكانت قبل ذلك خربة وخالية . على أن { بعد } تأتي بمعنى " مع " كقوله : { عتلّ بعد ذلك زنيم } {[541]} أي : مع ذلك ، فلا إشكال . وتقديم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة . { فسوّاهن سبع سماوات } أي : صيّرهن ، كما في آية أخرى { فقضاهن } {[542]} .

( تنبيه ) قال بعض علماء الفلك : السماوات السبع المذكورة كثيرا في القرآن هي هذه السيارات السبع . وإنما خصّت بالذكر مع أن السيارات أكثر من ذلك لأنها أكبر السيارات وأعظمها ؛ على أن القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد على سبيل الحصر فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع .

وقال بعض علماء اللغة : إن العرب تستعمل لفظ سبع ، وسبعين ، وسبعمائة للمبالغة / في الكثرة . فالعدد إذن غير مراد . ومنه آية { سبع سنابل } {[543]} وآية { والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر } {[544]} وآية { سبعين مرة } {[545]} والله أعلم .

وذهب بعض علماء الفلك إلى أن الحصر في السبع حقيقي ، وأن المراد به العالم الشمسي وحده دون غيره . وعبارته : إن قيل : إن كل ما يعلو الأرض من الشمس والقمر والكواكب هو سماء ، فلماذا خصّص تعالى عددا هو سبع ؟ فالجواب : لاشك أنه يشير إلى العالم الشمسي الذي أحطنا الآن به علما وأن حصر العدد لا يدل على احتمال وجود زيادة عن سبع ، لأن القول بذلك ، يخرج تطبيق القرآن على الفلك ، لأن العلم أثبتها سبعا كالقرآن الذي لم يوجد فيه احتمال الزيادة لأن الجمع يدخل فيه جميع العوالم التي لا نهاية لها حتى يمكن أن يقال : إن سبعا للمبالغة كسبعين وسبعمائة ولا يصح أن يكون العدد سبعة للمبالغة لأنه قليل جدا بالنسبة إلى العوالم التي تعد بالملايين مثل العالم الشمسيّ ويؤيد الحصر في هذا العدد آية { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } {[546]} فأخرج الشمس لأنها مركز ، / وأخرج القمر لأنه تابع للأرض ، ولم يبق بعد ذلك إلا سبع . . !

قال : وبذلك تتجلى الآن معجزة واضحة جليّة . لأنه في عصر التقدم والمدنية العربية ، حينما كان العلم ساطعا على الأرض بعلماء الإسلام ، كان علماء الفلك لا يعرفون من السيارات إلا خمسا بأسمائها العربية إلى اليوم وهي : عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري ، زحل . وكانوا يفسرونها بأنها هي السماوات المذكورة في القرآن . ولما لم يمكنهم التوفيق بين السبع والخمس ، أضافوا الشمس والقمر لتمام العدد . مع أن القرآن يصرح بأن السماوات السبع غير الشمس والقمر . وذلك في قوله تعالى : { الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها * ثم استوى على العرش * وسخّر الشمس والقمر * كل يجري لأجل مسمّى } {[547]} فلفظ { وسخّر } دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السماوات . ولذلك كان المفسرون الذين لا يعرفون الهيئة لا يرون أن تعدّ الشمس سماء ، ولا القمر ، لعلمهم أن السماوات السبع مسكونة . وأما الشمس فنار محرقة . فذهبوا في تفسير السماوات على تلك الظنون . ولما اكتشف بعد ( بالتلسكوب ) سيّارٌ لم يكن معلوما ، دعوه " أورانوس " ثم سيّار آخر سموه " نبتون " صارت مجاميع السيارات سبعا . فهذا الاكتشاف الذي ظهر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بألف ومائتي سنة دل على معجزة القرآن ، ونبوة المنزل عليه صلى الله عليه وسلم .

ثم قال : وأما كون السماوات هي السيارات السبع بدون توابعها ، فلا يفهم من الآية ، لأن الأقمار التي نثبتها ، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ ، يلزم أن تكون تابعة للسماوات السبع لأنها تعلونا وهي في العالم الشمسي . وحينئذ ، فالسماوات السبع هي مجاميع السيارات السبع . بمعنى : أن مجموعة زحل بما فيها هو نفسه أي مع أقماره الثمانية تعد سماء ، لأن فلكها طبقة فوق طبقة فلك مجموعة المشتري . ويدل على هذا / التطبيق قوله تعالى : { ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين * وأعتدنا لهم عذاب السعير } {[548]} يشير إلى أن السماء الدنيا أي السماء التي تلي الأرض فلك المريخ . فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح ، وتعتبر كلها سماء ، وليس السيّار نفسه . . ! انتهى .

وقوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } اعتراض تذييليّ مقرر لما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها على هذا النمط البديع المنطوي على الحكم الفائقة ، والمصالح اللائقة . فإن علمه عز وجل بجميع الأشياء يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق .


[537]:أخرجه البخاري في: 97 ـ كتاب التوحيد، 22 ـ باب {وكان عرشه على الماء} و{هو رب العرش لعظيم}.
[538]:جزء أول ص 429 (طبعة المعارف).
[539]:[79/ النازعات/ 30].
[540]:[79/ النازعات/ 31].
[541]:[68/ القلم/ 13].
[542]:[41/ فصلت/ 12] ونصها: {فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم 12}.
[543]:[2/ البقرة/ 261] ونصها: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم 261}.
[544]:[31/ لقمان/ 27] ونصها: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم 27}.
[545]:[9/ التوبة/ 80] ونصها: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين 80}.
[546]:[71/ نوح/ 15 و16].
[547]:[13/ الرعد/ 2].
[548]:[67/ الملك/ 5].