غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

28

ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى أصل جميع النعم وهو الإحياء الذي من حقه أن يشكر ولا يكفر ، أعقبها بذكر ما هو كالأصل لسائر النعم وهو خلق الأرض بما فيها ، وخلق السماء . ومعنى { لكم } لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم وذلك ظاهر ، وفي دينكم من النظر في عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم ، ومن التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الإنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية ، وعلى أسباب الوحشة والألم من النيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف . فظاهر الآية لا يدل إلا على خلق ما في الأرض لأجلهم دون الأرض . فإن أريد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما يذكر السماء ويراد به الجهات العلوية جاز أن يراد خلق لكم الأرض وما فيها . و{ جميعاً } نصب على الحال من الموصول الثاني وهو " ما " أي مجموعة ، والمجموع الذي جمع من ههنا وههنا وإن لم يجعل كالشيء الواحد ويندرج فيها جميع البسائط من الماء والهواء والنار وجميع المواليد من المعادن والنبات والحيوان وجميع الصنائع والحرف . وبعضهم يستدل بهذا على أن الأصل في الأشياء الإباحة عقلاً لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها ويمكن أن يقال بل بهذه الآية وإلا كان تصرفاً في ملك الغير من غير إذنه . ولا يلزم من أنه تعالى خلق ما في الأرض لأجل المكلفين أن يكون فعله معللاً بغرض ، وإن كان لا يخلو من فائدة وغاية ، وإلا كان عبثاً لأنه لا يلزم من استتباع الفعل الغاية أن تكون تلك الغاية علة لعلية فاعلة ، لأن هذا فيما إذا كانت فاعليته ناقصة لتتكمل بتلك الغاية ، أما إذا كانت فاعليته تامة فإنه يوجد الشيء ذا الغاية من غير أن تكون تلك الغاية حاملة له على ذلك ، وهذا فرق دقيق يتنبه له من يسر عليه قيل : إنه تعالى خلق الكل للكل ، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلاً ، قلنا : قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد للفرد ، والتعيين يستفاد من دليل منفصل . والاستواء بمعنى الانتصاب ضد الاعوجاج من صفات الأجسام ، وإنه تعالى منزه عن ذلك . وأيضاً { ثم } تقتضي التراخي ، فلو كان المراد بهذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلاً أزلاً ولم يكن متأخراً عن خلق ما في الأرض ، فيجب التأويل . وتقريره أن يقال : استوى العود إذا اعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه استعير قوله { ثم استوى إلى السماء } [ فصلت : 11 ] أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر . والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق ، أو هذا كقولك لآخر " اعمل هذا الثوب " وإنما معه غزل . على أنها كانت دخاناً ثم سواها سبع سماوات . و { ثم } ههنا إما للتراخي في الوقت والمراد أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقاً آخر كما قلنا ، أو للتفاوت بين الخلقين . وفضل خلق السماوات على خلق الأرض كقوله { فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر }

[ المؤمنون : 14 ] وكقوله { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] وتفسير هذه الآية في قوله { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } [ فصلت : 9 ، 10 ] يعني تقدير الأرض في يومين ، وتقدير الأقوات في يومين ، كما يقول القائل : من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً ، وإلى مكة ثلاثون يوماً ، يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر . ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ، ومجموع ذلك ستة أيام كما قال { خلق السماوات والأرض في ستة أيام } [ يونس : 3 ] فإن قيل : أما يناقض هذا قوله { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] قلنا : أجاب في الكشاف لا ، لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء ، وأما دحوها فمتأخر . وعن الحسن : خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله { كانتا رتقاً } [ الأنبياء : 30 ] وهو الالتزاق ، وزيف بأن الأرض جسم عظيم يمتنع انفكاك خلقها عن التدحية . وأيضاً قوله تعالى { خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } يدل على أن خلق الأرض وخلق ما فيها مقدم على خلق السماء ، لأن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوّة . وقال بعض العلماء في دفع التناقض قوله { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] يقتضي تقدم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض ، وزيف أيضاً بأن قوله { أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسوّاها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 27-30 ] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدماً على تدحية الأرض ، بل على خلقها لأنهما متلازمان . وحينئذ يعود التناقض والمعتمد عند بعضهم في دفعه أن يقال { ثم } ليس للترتيب ههنا ، وإنما هو على جهة تعديد النعم . مثاله : أن تقول لغيرك : ألست قد أعطيتك نعماً عظيمة ، ثم رفعت قدرك ، ثم دفعت عنك الخصوم ؟ ولعل بعض ما أخرته في الذكر مقدم في الوقوع . ( قلت ) : وهذا صحيح معقول من حيث ابتداء الوجود من الأشرف فالأشرف والألطف فالألطف إن ساعده النقل وإلا فلا إحالة في أنه تعالى خلق الأرض أولاً في غاية الصغر وجعل فيها أصول الجبال ووضع فيها البركة وقدر الأقوات ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعاً ثم دحا الأرض بأن جعلها أعظم مما كانت عليه كهيئتها الآن والله تعالى أعلم . والضمير في { سوّاهن } ضمير مبهم ، و{ سبع سماوات } تفسيره نحو : ربه رجلاً . وفائدة الإبهام أولاً ثم البيان ثانياً أن الكلام هكذا أوقع في النفس ، لأن المحصول بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب . وقيل : الضمير راجع إلى السماء ، والسماء في معنى الجنس . وقيل : جمع سماءة والوجه العربي هو الأول . ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وهو بكل شيء عليم ، فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب الحاجات وكفاء المصالح ، ومقتضى الحكمة والتدبير . وهذا عام لم يدخله التخصيص قط ، وبه يهدم بناء من زعم أنه غير عالم بالجزئيات ، لأنه تعالى لو لم يعرف تفاصيلها لم تكن مخلوقاته على غاية الإتقان والإحكام ، فسبحانه من خبير يعلم الذرة في الأجواف ، والدرة في الأصداف ، والقطرة في البحر ، والخطرة في النحر ، وعلى هذا يدور نظام العالم وبه يحصل قوام مناهج بني آدم . ثم إن العقل قد يدل على وجود سبع سماوات ، وتخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد ، فأثبت أهل الأرصاد تسعة أفلاك على ما استقر عليه رأيهم ، أولها من الجانب الأعلى للحركة اليومية ، لأن هذه الحركة تشمل جميع الأجرام ، فيجب أن يكون فلكها حاوياً للكل . وثانيها للثوابت جميعها تحديداً لأدنى الدرجات لاتحاد الحركات وإن كان كونها على أفلاك شتى جائزاً . والسبعة الباقية للسيارات السبعة جميع ذلك بوجود اختلاف المنظر وعدمه . وعلى ترتيب خسف بعضها بعضاً ، أولها مما يلينا للقمر وفوقه لعطارد ثم للزهرة ثم للشمس ثم للمريخ ثم للمشتري ثم لزحل . ونازعهم بعض الناس في زيادة الفلكين الثامن والتاسع فقال : من المحتمل أن تتصل نفس بمجموع السبعة فتحركها حركة الكل ، ثم يكون لكل فلك نفس على حدة تحركه حركته الخاصة به ، وتكون الثوابت على محدب ممثل زحل مثلاً . وبالجملة فلم يتبين لأحد من الأوائل والأواخر كمية أعداد السماوات على ما هي عليه لا عقلاً ولا سمعاً { وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } [ المدثر : 31 ] .