{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض } قال ابن كيسان أي خلق من أجلكم ما فيها من المعادن والنبات والحيوان والجبال والبحار لتنتفعوا به في مصالح الدين والدنيا ، أما الدين فهو الاعتبار والتفكر في عجائب مخلوقات الله الدالة على وحدانيته ، وأما الدنيا فهو الانتفاع بما خلق فيها ، وقيل اللام للاختصاص ، وقيل للملك والإباحة ، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل ، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر ، وفي التأكيد بقوله { جميعا } أقوى دلالة على هذا .
وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين لأنه تعالى خلق ما في الأرض ، دون نفس الأرض ، وقال الرازي في تفسيره إن لقائل أن يقول أن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جامعا للوصفين ، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك ، وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض لها ، ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إه .
وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال : فإن قلت هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة . قلت إن أراد بالأرض جهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية جاز ذلك فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية أه . وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه وهو أيضا ضار ليس مما ينتفع به أكلا ، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى ، وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة الأكل بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه ، وأما السم القاتل ففيه نفع لأجل دفع الحيوانات المؤذية وقتلها فلا يراد أنه لا نفع فيه .
{ ثم استوى إلى السماء } أي قصد وأقبل على خلقها . وقيل عمد ، وقال ابن عباس ارتفع وقال الأزهري صعد أمره ، وكذا ذكره صاحب المحكم ، وذلك أن الله خلق الأرض أولا ثم عمد إلى خلق السماء ، وأصل { ثم } يقتضي تراخيا زمانيا ولا زمان هنا فقيل هي إشارة إلى التراخي بين رتبتي خلق الأرض والسماء . قال القرطبي والاستواء في اللغة الاعتدال والانتصاب والاستقامة ، وضده الاعوجاج قاله في الكشاف والرازي ، ويطلق على الارتفاع والعلو على الشيء ، قال تعالى : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } وقال { لتستووا على ظهوره } وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية .
وقد قيل أن هذه الآية من المشكلات ، وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها وترك التعرض لتفسيرها ، وخالفهم آخرون ، وقد استدل بقوله { ثم استوى } على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، وكذلك الآية التي في { حم } السجدة وقال تعالى في النازعات { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها } فوصف خلقها ثم قال { والأرض بعد ذلك دحاها } فكأن السماء على هذا خلقت بعد الأرض ، وكذلك قوله تعالى { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض } وقد قيل أن خلق جرم الأرض متقدم على السماء ، ودحوها متأخر وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم ، وهذا جمع جيد لا بد من المصير إليه ، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء ، وهذا يقتضي بقاء الإشكال وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع ، قال الشوكاني .
قلت : ذكر رحمه الله في السورتين المذكورتين أن { ثم } للتراخي الرتبي لا للتراخي الزماني ، أو أن بعد { بعد } بمعنى مع كما في قوله { عتل بعد ذلك زنيم } أو أنها بمعنى قبل كقوله { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } أي من قبل الذكر فيزول ما ذكره رحمه الله تعالى من بقاء الإشكال .
وقال الفراء الإستواء في كلام العرب على وجهين " أحدهما " أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته أو يستوي من اعوجاج ، وقال البيهقي الاستواء بمعنى الإقبال صحيح لأن الإقبال هو القصد ، والقصد هو الإرادة وذلك جائز في صفات الله ، وقال سفيان ابن عيينة أي قصد إليها وقيل علا دون تكييف ولا تحديد واختاره الطبري ، وقال أبو العالية استوى ارتفع وقال قتادة إن السماء خلقت أولا ، حكاه عنه الطبري ، والبحث في ذلك يطول ، وقد استوفاه الرازي في تفسيره ، وأجاب عنه بوجوه ثم قال : الجواب الصحيح أن قوله { ثم } ليس للترتيب ههنا ، وإنما هو على جهة تعديد النعم والله أعلم .
{ فسواهن } أي عدل خلقهن فلا اعوجاج فيه ولا فطور ، وقيل معناه سوى سطوحهن بالإملاس وقيل جعلهن سواء { سبع سموات } مستويات لا صدع فيها ولا فطور ، وفي هذا التصريح بأن السموات سبع ، وأما الأرض فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى { ومن الأرض مثلهن } فقيل في العدد وقيل في غلظهن وما بينهن . وقال المارودي أن الأرض سبع ، ولكن لم يفتق بعضها من بعض ، والصحيح أنها سبع كالسموات : وعلى أنها سبع أرضين متفاصلة بعضها فوق بعض تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا ، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز ، وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم للضوء منها قولان " أحدهما " أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها ، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة " والثاني " أنهم لا يشاهدون السماء فإن الله تعالى خلق لهم ضياء يستمدون منه ، وهذا قول من جعل الأرض كروية ، وفي الآية قول ثالث حكاه الطيبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض ، تفرق بينها البحار وتظل جميعها السماء انتهى ، وسيأتي تحقيق ما هو الحق في آخر سورة الطلاق إن شاء الله تعالى .
وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم ( من أخذ من الأرض شبرا ظلما طوقه الله من سبع أرضين ) وهو ثابت من حديث عائشة وسعيد ابن زيد .
وقد أطنب الرازي في تفسيره في بيان السموات هل هي سبع أو ثمان وذكر مذاهب الحكماء في ذلك وأجابهم بوجوه ثم قال : أعلم أن هذا الخبط مما ينبهك على أنه لا سبيل للعقول البشرية إلى إدراك هذه الأشياء ، وأنه لا يحيط بها إلا علم فاطرها وخالقها فوجب الإقتصار فيه على الدلائل السمعية .
فإن قال قائل : فهل يدل التنصيص على سبع سموات على نفي العدد الزائد ؟ قلنا الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد انتهى ، وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع .
ونحن نقول أنه لم يأتنا عن الله ولا عن رسوله إلا السبع فنقتصر على ذلك ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع ، ولم يأت شيء من ذلك ، عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة في هذه الآية قالوا إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها سبع أرضين في يومين الأحد والإثنين ، فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله { ن والقلم } والحوت قائم على ظهر صفاة والصفاة ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فذلك قوله تعالى { وجعل لها رواسي أن تميد بكم } وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وسخرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك قوله { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض } إلى قوله { وبارك فيها } يقول أنبت شجرها فيها { وقدر فيها أقواتها } يقول أقوات أهلها في أربعة أيام سواء للسائلين يقول من سأل فهكذا الأمر { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض { وأوحى في كل سماء أمرها } قال خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظا من الشياطين ، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش أخرجه البيهقي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن جرير .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيح قال أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي فقال ( خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيه الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر ) {[84]} .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عند أهل السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة أحاديث في وصف السموات وإن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام ، وأنها سبع سموات ، وأن الأرض سبع أرضين ، ولم يأت في التنزيل ولا في السنة المطهرة تصريح بأن فيهن من يعقل من العوالم والأوادم وأنبيائهم ، والآثار من الصحابة ومن بعدهم إن جاءت بسند صحيح لا تصلح للاحتجاج على ذلك ، فكيف بما لا يصح سنده أو صح ولكن لم يتابع عليه أو توبع عليه ولكن لم يساعده نص من الله ورسوله ، وكذلك ثبت في وصف السماء آثار من جماعة من الصحابة وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية ، وإنما تركنا ذكره هنا لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص بل هو متعلق بما هو أعم منها{[85]} .
{ وهو بكل شيء عليم } أي يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات وأنما أثبت سبحانه لنفسه العلم بكل شيء لأنه يجب أن يكون عالما بجميع ما ثبت أنه خالقه .