ولما أجمل سبحانه في أول{[1465]} هذه الآية أول أمرهم وأوسطه وآخره{[1466]} على الوجه الذي تقدم أنه منبه على أن الكفر ينبغي أن يكون من قبيل الممتنع{[1467]} لما عليه من باهر{[1468]} الأدلة شرع{[1469]} يفصله على وجه داع لهم إلى جنابه{[1470]} بالامتنان بأنواع الإحسان{[1471]} بأمر أعلى في إفادة المقصود مما قبله على عادة القرآن في الترقي من العالي إلى الأعلى فساق{[1472]} سبحانه ابتداء الخلق الذي هو من أعظم الأدلة على وحدانيته مساق الإنعام على عباده بما فيه من منافعهم ليكون داعياً إلى توحيده من وجهين : كونه دالاً على عظمة مؤثرة وكمال قدرته ، وكونه إحساناً إلى عباده ولطفاً بهم ، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها فقال{[1473]} : { هو }{[1474]} ، قال الحرالي : وهي كلمة مدلولها العلي{[1475]} غيب الإلهية القائم بكل شيء الذي لا يظهر لشيء ، فذاته أبداً غيب ، وظاهره الأسماء المظهرة من علو إحاطة اسم الله إلى تنزل اسم الملك ، فما بينهما من الأسماء المظهرة ، ثم قال : لما انتهى الخطاب بذكر إرجاعهم إلى الله وكان هذا خطاباً خاصاً مع المتمادي على كفره اتبع عند إعراضه وإدباره بهذا الحتم{[1476]} تهديداً رمى به بين أكتافهم{[1477]} وتسبيباً نيط بهم ومُدّ لهم كالمرخى له في السبب{[1478]} الذي يراد أن يجذب به ، إما بأن يتداركه لطف فيرجع عليه طوعاً ، أو يراد به قسراً عند انتهاء مدى إدباره ، وانتظم به ختم آية الدعوة بنحو من ابتدائها ، إلا أن هذه على نهاية الاقتطاع بين طرفيها وتلك على أظهر الاتساق ؛ فأبعدوا في هذه كل البعد بإسناد الأمر إلى اسم هو الذي هو غيب اسم الله وأسند إليه خلق ما خلق لهم في الأرض الذي هو أظهر شيء للحس - انتهى .
الذي خلق لكم{[1479]} } {[1480]}ديناً ودنيا{[1481]} لطفاً بكم { ما في الأرض } أي{[1482]} بعد أن سواهن سبعاً ، قال الحرالي : وقوله : { جميعاً } إعلام بأن حاجة الإنسان لا تقوم بشيء دون شيء وإنما تقوم بكلية ما في الأرض حتى لو بطل منها شيء تداعى سائرها - انتهى . {[1483]}والآية دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة ، فلا يمنع شيء إلا بدليل{[1484]} .
ولما كانت السماء{[1485]} أشرف من جهة العلو الذي لا يرام ، والجوهر البالغ في{[1486]} الأحكام ، والزينة{[1487]} البديعة النظام ، المبنية على المصالح الجسام ، وكثرة المنافع والأعلام ، عبر في أمرها بثم فقال{[1488]} : { ثم استوى إلى السماء } أي {[1489]}وشرف على ذلك جهة العلو بنفس الجهة والحسن والطهارة وكثرة المنافع ، ثم علق إرادته ومشيئته بتسويتها من غير أدنى عدول ونظر إلى غيرها ، وفخم أمرها بالإبهام ثم التفسير ، والإفراد{[1490]} الصالح لجهة العلو تنبيهاً على الشرف ، وللجنس الصالح للكثرة ، ولذلك أعاد الضمير جمعاً ، فكان خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء ، ودحوها{[1491]} بعد خلق السماء ؛ على {[1492]}أن ثم للتعظيم لا للترتيب فلا إشكال ، وتقديم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة . و{[1493]}قال الحرالي : أعلى الخطاب بذكر الاستواء إلى السماء الذي هو موضع التخوف لهم لنزول{[1494]} المخوفات منه عليهم فقيل لهم : هذا المحل الذي تخافون{[1495]} منه هو استوى إليه ، ومجرى لفظ الاستواء في الرتبة والمكانة أحق بمعناه من موقعه في المكان والشهادة ؛ وبالجملة فالأحق بمجرى الكلِم وقوعها{[1496]} نبأ عن{[1497]} الأول الحق ، ثم وقوعها نبأ{[1498]} عما في أمره وملكوته ، ثم وقوعها نبأ{[1499]} عما في ملكه وإشهاده ؛ فلذلك حقيقة اللفظ لا تصلح{[1500]} أن تختص بالمحسوسات البادية في الملك دون الحقائق التي من ورائها من عالم الملكوت ، وما به ظهر الملك والملكوت من نبأ الله عن نفسه{[1501]} من الاستواء{[1502]} ونحوه{[1503]} في نبأ الله عن نفسه أحق حقيقة ، ثم النبأ به عن الروح مثلاً واستوائها على الجسم ثم على الرأس مثلاً واستوائه على الجثة فليس تستحق الظواهر حقائق الألفاظ على بواطنها بل كانت البواطن أحق باستحقاق الألفاظ ؛ وبذلك يندفع كثير من لبس الخطاب على المقتصرين بحقائق الألفاظ على محسوساتهم { فسوَّاهُنَّ }{[1504]} التسوية إعطاء أجزاء الشيء حظه لكمال صورة ذلك الشيء { سبع سماوات } أعطى لكل واحدة منهن حظها
وأوحى في كل سماء أمرها{[1505]} }[ فصلت : 12 ] انتهى . وخلق جميع ما فيها لكم ، فالآية من الاحتباك ؛ حذف{[1506]} أولاً كون الأراضي سبعاً لدلالة الثاني عليه ، وثانياً كون ما في السماء لنا لدلالة الأول عليه ؛ وهو فن عزيز نفيس وقد جمعت فيه كتاباً حسناً ذكرت فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني{[1507]} من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته " الإدراك لفن الاحتباك " .
ولما كان الخلق على هذه الكيفية دالاً بالبديهة على أتم قدرة لصانعه وكان العلم بأن مبنى ذلك على العلم محتاجاً إلى تأمل اغتنى في مقطع الآية بقوله : { وهو بكل شيء عليم } أي فهو على كل شيء قدير .