قوله تعالى :{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } فيه عشر مسائل :
الأولى : " خلق " معناه اخترع وأوجد بعد العدَم . وقد يقال في الإنسان : " خلق " عند إنشائه شيئا ، ومنه قول الشاعر :
من كان يخلق ما يقو *** ل فحِيلتِي فيه قليلة
وقد تقدم{[395]} هذا المعنى . وقال ابن كيسان : " خلق لكم " أي من أجلكم . وقيل : المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم . وقيل : إنه دليل على التوحيد والاعتبار .
قلت : وهذا هو الصحيح على ما نبينه . ويجوز أن يكون عُني به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء .
الثانية : استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها - كقوله : " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه{[396]} " [ الجاثية : 13 ] الآية - حتى يقوم الدليل على الحظر . وعضدوا هذا بأن قالوا : إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا ، فلا بد لها من منفعة . وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته ، فهي راجعة إلينا . ومنفعتنا إما في نيل لذتها ، أو في اجتنابها لنختبر بذلك ، أو في اعتبارنا بها . ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها ، فلزم أن تكون مباحة . وهذا فاسد ؛ لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة ، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة ، بل هو الموجب . ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق ، بل قد استدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين . ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة ، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر . وتوقف آخرون وقالوا : ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه ، ولا معين قبل ورود الشرع ، فتعين الوقف إلى ورود الشرع ، وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة . وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف . ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال ، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء ، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه . قال ابن عطية : وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، ولا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به ، أو لها حال تستصحب . قال : فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف .
الثالثة : الصحيح في معنى قوله تعالى : " خلق لكم ما في الأرض " الاعتبار . يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر : الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها ، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض ، لا تبعد منه القدرة على الإعادة .
فإن قيل : إن معنى " لكم " الانتفاع ، أي : لتنفعوا بجميع ذلك ، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا . فإن قيل : وأي اعتبار في العقارب والحيات . قلنا : قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي ، وذلك أعظم الاعتبار . قال ابن العربي : وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا ، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته .
وقال أرباب المعاني في قوله : " خلق لكم ما في الأرض جميعا " لتتقووا به على طاعته ، لا لتصرفوه في وجوه معصيته . وقال أبو عثمان : وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده ، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد .
الرابعة : روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا ) فقال له عمر : هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر . فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله : أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بذلك أمرت ) . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فخوف الإقلال من سوء الظن بالله ؛ لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم ، وقال في تنزيله : " خلق لكم ما في الأرض جميعا " " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه " [ الجاثية : 13 ] . فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه ؛ ليكون له عبد ا كما خلقه عبدا ، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه ، كما قال تعالى : " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين{[397]} " [ سبأ : 39 ] وقال : " فإن ربي{[398]} غني كريم " [ النمل : 40 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال الله تعالى : سبقت رحمتي غضبي يا ابن آدم ، أنْفِق أنفق عليك يمين الله ملأى سحّا{[399]} لا يغيضها شيء الليل والنهار ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ) . وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا ، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله . فمن استنار صدره ، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال ، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته ، وانقطعت مشيئته لنفسه ، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا . وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء ، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئة في شيء خاف ألا يصيب غدا ، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله . روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انفحي أو انضحي{[400]} أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي{[401]} عليك ) . وروى النسائي عن عائشة قالت : دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك ) قلت : نعم ، قال : ( مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك ) .
الخامسة : قوله تعالى : " ثم استوى " " ثم " لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه . والاستواء في اللغة : الارتفاع والعلو على الشيء ، قال الله تعالى : " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك " [ المؤمنون : 28 ] ، وقال " لتستووا على ظهوره " [ الزخرف : 13 ] ، وقال الشاعر :
فأوردتهم ماء بفَيْفَاء قفرة *** وقد حلَّق النجم اليماني فاستوى
أي ارتفع وعلا ، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي ، بمعنى علا . وهذه الآية من المشكلات ، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه ، قال بعضهم : نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها ، وذهب إليه كثير من الأئمة ، وهذا كما روى عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى : " الرحمن على العرش{[402]} استوى " [ طه : 5 ] قال مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأراك رجل سوء أخرجوه . وقال بعضهم : نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة . وهذا قول المشبهة . وقال بعضهم : نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها . وقال الفراء في قوله عز وجل : " ثم استوى إلى السماء فسواهن " قال : الاستواء في كلام العرب على وجهين ، أحدهما : أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته ، أو يستوي عن اعوجاج . فهذان وجهان . ووجه ثالث أن تقول : كان{[403]} فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني . على معنى أقبل إلي وعلي . فهذا معنى قوله : " ثم استوى إلى السماء " والله أعلم . قال وقد قال ابن عباس : ثم استوى إلى السماء صعد . وهذا كقولك : كان قاعدا فاستوى قائما ، وكان قائما فاستوى قاعدا ، وكل ذلك في كلام العرب جائز . وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين : قوله : " استوى " بمعنى أقبل صحيح ؛ لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء ، والقصد هو الإرادة ، وذلك جائز في صفات الله تعالى . ولفظة " ثم " تتعلق بالخلق لا بالإرادة . وأما ما حكي عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي ، والكلبي ضعيف . وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله " ثم استوى إلى السماء " : قصد إليها ، أي بخلقه واختراعه ، فهذا قول . وقيل : على دون تكييف ولا تحديد ، واختاره الطبري . ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال : استوى بمعنى أنه ارتفع . قال البيهقي : ومراده من ذلك - والله أعلم - ارتفاع أمره ، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء . وقيل : إن المستوى الدخان . وقال ابن عطية : وهذا يأباه وصف الكلام . وقيل : المعنى استولى ، كما قال الشاعر{[404]} :
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مُهْرَاقِ
قال ابن عطية : وهذا إنما يجيء في قوله تعالى : " الرحمن على العرش استوى " [ طه : 5 ] .
قلت : قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة " الأعراف{[405]} " إن شاء الله تعالى . والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة .
السادسة : يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء ، وكذلك في " حم السجدة{[406]} " . وقال في النازعات : " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها{[407]} " [ النازعات : 27 ] فوصف خلقها ، ثم قال : " والأرض بعد ذلك دحاها " [ النازعات : 30 ] . فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض ، وقال تعالى " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض{[408]} " [ الأنعام : 1 ] وهذا قول قتادة : إن السماء خلقت أولا ، حكاه عنه الطبري . وقال مجاهد وغيره من المفسرين : إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتفع ، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء ، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ثم دحا{[409]} الأرض بعد ذلك ، وكانت إذ خلقها غير مدحوة .
قلت : وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى ، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك .
ومما{[410]} يدل على أن الدخان خلق أولا قبل الأرض ما رواه السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " [ البقرة : 29 ] قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء ، فسما عليه ، فسماه سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين ، في الأحد والاثنين . فجعل الأرض على حوت - والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله : " ن والقلم{[411]} " [ القلم : 1 ] والحوت في الماء و[ الماء{[412]} ] على صفاة{[413]} ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على الصخرة ، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان : ليست في السماء ولا في الأرض - فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسل عليها الجبال فقرت ، فالجبال تفخر على الأرض ، وذلك قوله تعالى : " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم{[414]} " [ النحل : 15 ] وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها وشجرها ، وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين{[415]} " [ فصلت : 9 ، 10 ] يقول : من سأل فهكذا الأمر ، " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين ، في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض ، " وأوحى في كل سماء أمرها " [ فصلت : 12 ] قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، قال فذلك حين يقول : " خلق السموات والأرض في ستة أيام " [ الحديد : 4 ] ويقول : " كانتا رتقا ففتقناهما{[416]} " [ الأنبياء : 30 ] وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام ، على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى . وروى وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : ( إن أول ما خلق الله عز وجل من شيء " القلم " فقال له اكتب . فقال : يا رب وما اكتب ؟ قال : اكتب القدر . فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة . قال : ثم خلق النون فدحا الأرض عليها ، فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات ، واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة . ) ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان ، خلاف الرواية الأولى . والرواية الأولى عنه وعن غيره أولى ، لقوله تعالى : " والأرض بعد ذلك دحاها{[417]} " [ النازعات : 30 ] والله أعلم بما فعل ، فقد اختلفت فيه الأقاويل ، وليس للاجتهاد فيه مدخل .
وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها ، فألقى في قلبه ، فقال : هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع . قال : فهم لوثيا بفعل ذلك ، فبعث الله دابة فدخلت في منخره ، فعج إلى الله فخرجت . قال كعب : والذي نفسي بيده ، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت .
السابعة : أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجه في سننه ، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبى هريرة قال قلت : يا رسول الله ، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني ، أنبئني عن كل شيء . قال : ( كل شيء خلق من الماء ) فقلت : أخبرني عن شيء إذا علمت به دخلت الجنة . قال : ( أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام ) . قال أبو حاتم قول أبي هريرة : " أنبئني عن كل شيء " أراد به عن كل شيء خلق من الماء . والدليل على صحة هذا جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال : ( كل شيء خلق من الماء ) وإن لم يكن مخلوقا . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون ) ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا . قال البيهقي : وإنما أراد - والله أعلم - أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش " القلم " . وذلك بين في حديث عمران بن حصين ، ثم خلق السموات والأرض . وذكر عبد الرزاق بن عمر بن حبيب المكي عن حميد بن قيس الأعرج عن طاووس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري . قال : ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله ، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو . قال : فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله ، فقال : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ فتلا عبد الله بن عباس : " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه{[418]} " [ الجاثية : 13 ] فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم . قال البيهقي : أراد أن مصدر الجميع منه ، أي من خلقه وإبداعه واختراعه . خلق الماء أولا ، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق ، ثم جعله أصلا لما خلق بعد ، فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه ، سبحانه جل وعز .
الثامنة : قوله تعالى : " فسواهن سبع سماوات " ذكر تعالى أن السموات سبع . ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى : " ومن الأرض مثلهن{[419]} " [ الطلاق : 12 ] وقد اختلف فيه ، فقيل : ومن الأرض مثلهن أي في العدد ، لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار ، فتعين العدد . وقيل : " ومن الأرض مثلهن " أي في غلظهن وما بينهن . وقيل : هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض ، قاله الداودي . والصحيح الأول ، وأنها سبع كالسماوات سبع . روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين ) . وعن عائشة رضي الله عنها مثله ، إلا أن فيه " من " بدل " إلى " . ومن حديث أبي هريرة : ( لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين ){[420]} وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال موسى عليه السلام : يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به ، قال : يا موسى قل لا إله إلا الله ، قال موسى : يا رب كل عبادك يقول هذا ، قال : قل لا إله إلا الله ، قال : لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به ، قال : يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله ) . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تدرون ما هذا ) فقالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - قال - هل تدرون ما فوقكم ) قالوا : الله ورسول أعلم ، قال : ( فإنها الرقيع{[421]} سقف محفوظ وموج مكفوف - ثم قال - هل تدرون كم بينكم وبينها ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( بينكم وبينها مسيرة{[422]} خمسمائة عام - ثم قال : - هل تدرون ما فوق ذلك ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإن فوق ذلك{[423]} سماءين بعد ما بينهما مسيرة{[424]} خمسمائة سنة ) ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض . ثم قال : ( هل تدرون ما فوق ذلك ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال ( فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين - ثم قال : - هل تدرون ما الذي تحتكم ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإنها الأرض - ثم قال : - هل تدرون ما تحت ذلك ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة ) حتى عد سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال : ( والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله - ثم قرأ - هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) . قال أبو عيسى : قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد : لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، [ علم الله وقدرته وسلطانه{[425]} ] في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه . قال : هذا حديث غريب ، والحسن لم يسمع من أبي هريرة . والآثار بأن الأرضين سبع كثيرة ، وفيما ذكرنا كفاية . وقد روى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس أنه قال : " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن " [ الطلاق : 12 ] قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم ، وعيسى كعيسى . قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عباس صحيح ، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه دليلا{[426]} ، والله أعلم .
التاسعة : قوله تعالى : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض " ابتداء وخبر . " ما " في موضع نصب " جميعا " عند سيبويه نصب على الحال " ثم استوى " أهل نجد يميلون ليدلوا على أنه من ذوات الياء ، وأهل الحجاز يفخمون . " سبع " منصوب على البدل من الهاء والنون ، أي فسوى سبع سماوات . ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سماوات ، كما قال الله جل عز : " واختار موسى قومه سبعين رجلا " [ الأعراف : 155 ] أي من قومه ، قال النحاس . وقال الأخفش : انتصب على الحال . " وهو بكل شيء عليم " ابتداء وخبر والأصل في " هو " تحريك الهاء ، والإسكان استخفاف .
والسماء تكون واحدة مؤنثة ، مثل عنان ، وتذكيرها شاذ ، وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش ، وسماءة في قول الزجاج ، وجمع الجمع سماوات وسماءات . فجاء " سواهن " إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس . ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالإملاس . وقيل : جعلهن سواء .
العاشرة : قوله تعالى : " وهو بكل شيء عليم " أي بما خلق وهو خالق كل شيء ، فوجب أن يكون عالما بكل شيء ، وقد قال : " ألا يعلم من خلق{[427]} " [ الملك : 14 ] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته ، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية . وقالت الجهمية : عالم بعلم قائم لا في محل ، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات ، والرد على هؤلاء في كتب الديانات . وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال : " أنزله بعلمه والملائكة يشهدون{[428]} " [ النساء : 166 ] ، وقال : " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله " [ هود : 14 ] ، وقال : " فلنقصن عليهم بعلم " [ الأعراف : 7 ] ، وقال : " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " [ فاطر : 11 ] ، وقال : " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها{[429]} إلا هو " [ الأنعام : 59 ] الآية . وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله : " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر{[430]} " [ البقرة : 185 ] إن شاء الله تعالى . وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من : هو وهي ، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم ، وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثم . وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من " أن يمل هو " والباقون بالتحريك .