قوله تعالى : { فمن حاجك فيه } أي جادلك في أمر عيسى وفي الحق .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءك من العلم } بأن عيسى عبد الله ورسوله .
قوله تعالى : { فقل تعالوا } أصله تعاليوا ، تفاعلوا ، من العلو ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ، قال الفراء : بمعنى تعال ، كأنه يقول : ارتفع .
قوله تعالى : { ندع } جزم لجواب الأمر ، وعلامة الجزم سقوط الواو .
قوله تعالى : { أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } . قيل : أبناءنا ، أراد الحسن والحسين ونساءنا فاطمة ، وأنفسنا عنى نفسه وعلياً رضي الله عنه ، والعرب تسمى ابن عم الرجل نفسه ، كما قال الله تعالى : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) . يريد إخوانكم ، وقيل : هو على العموم لجماعة أهل الدين .
قوله تعالى : { ثم نبتهل } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي نتضرع في الدعاء ، وقال الكلبي : نجتهد ونبالغ في الدعاء ، وقال الكسائي وأبو عبيدة : نبتهل ، والابتهال الالتعان يقال : عليه بهلة الله أي لعنته .
قوله تعالى : { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } منا ومنكم في أمر عيسى ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً ، فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم ، يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال : والله لقد عرفتكم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، والله مالا عن قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم . ولئن فعلتم ذلك لنهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً للحسين ، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض منكم نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن أبيتم المباهلة فأسلموا ؟ يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، فأبوا فقال : فإني أنابذكم فقالوا : مالنا بحرب العرب طاقة ، ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ، ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألفاً في صفر ، وألفاً في رجب ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال : " والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا " .
أي : { فمن } جادلك { وحاجك } في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية ، بل رفعه فوق منزلته { من بعد ما جاءك من العلم } بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه ، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني ، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو ، لأن الحق قد تبين ، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله ، قصده اتباع هواه ، لا اتباع ما أنزل الله ، فهذا ليس فيه حيلة ، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته ، فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين ، هو وأحب الناس إليه من الأولاد والأبناء والنساء ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا ، وعلموا أنهم إن لاعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا بالعقوبة ، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه ، وهذا غاية الفساد والعناد ، فلهذا قال تعالى { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة .
ثم قال تعالى - آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيانِ : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } أي : نحضرهم في حال المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } أي : نلتعن { فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } أي : منا أو منكم .
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران ، أن النصارى حين قدموا فجعلوا يُحَاجّون في عيسى ، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صَدْرَ هذه السورة رَدا عليهم ، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار وغيره .
قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره : وقَدم{[5095]} على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نَجْران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عَشرَ رجلا من أشرافهم يؤول إليهم أمرهم ، وهم : العاقب ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، وهو الأيْهَم ، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، وأويس الحارث{[5096]} وزيد ، وقيس ، ويزيد ، ونبيه ، وخويلد ، وعمرو ، وخالد ، وعبد الله ، وَيُحَنَّس .
وأمْرُ هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم ، وهم : العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، والسيد وكان عالمهم وصاحب رَحْلهم ومُجتمعهم ، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسْقُفهم وحَبْرَهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ، ولكنه تَنَصَّر ، فعظمته الروم وملوكها وشرفوه ، وبنوا له الكنائس وَمَوَّلُوه وأخْدَموه ، لما يعلمونه من صلابته في دينهم . وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأنه وصفته بما علمه من الكتب المتقدمة جيدا ، ولكن احتمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى [ من ]{[5097]} تعظيمه فيها ووجاهته عند أهلها .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه مَسْجِدَه حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرَات : جُبَب وأرْدية ، في جَمَال رجال بني الحارث بن كعب . قال : يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم . وقد حانت صلاتهم ، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دَعُوهم فصلّوا إلى المشرق .
قال : فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، أو السيّد الأيهم ، وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف أمرهم ، يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة . تعالى الله [ عن ذلك علوًا كبيرا ]{[5098]} وكذلك قول النصرانية ، فهم يحتجون في قولهم : " هو الله " بأنه كان يحيي الموتى ، ويُبْرئُ الأسقامَ ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا{[5099]} وذلك كله بأمر الله ، وليجعله آية للناس .
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله ، يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله .
ويحتجون في{[5100]} قولهم بأنه ثالث ثلاثة ، بقول الله تعالى : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ؛ فيقولون : لو كان واحدًا ما قال إلا فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ ؛ ولكنه هو وعيسى ومَرْيَم وفي كل ذلك من{[5101]} قولهم قد نزل القرآن .
فلما كلمه الحَبْران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسْلِمَا " قالا قد أسلمنا . قال : " إنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فأسْلِما " قالا بلى ، قد أسلمنا قبلك . قال : " كَذَبْتُمَا ، يمْنَعُكُمَا مِنَ الإسْلامِ دُعَاؤكُما{[5102]} لله ولدا ، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وأكْلُكُمَا الخِنزيرَ " . قالا فمن أبوه يا محمد ؟ فَصَمَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم ، صَدْرَ سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها .
ثم تَكَلَّم ابن إسحاق على التفسير{[5103]} إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله ، والفَصْلُ من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إنْ رَدّوا ذلك عليه ، دعاهم إلى ذلك ؛ فقالوا : يا أبا القاسم ، دَعْنَا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل{[5104]} فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خَلَوْا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبدَ المسيح ، ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرَفْتم أن محمدًا لنبيٌّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفَصْل من خَبَر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعَن قوم نبيًا قط فبقي كبيرهم ، ولا نبت صَغيرهم ، وإنه للاستئصال{[5105]} منكم إن فعلتم ، فإن كنتم [ قد ]{[5106]} أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعُوا الرجلَ وانصرفوا إلى بلادكم .
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا ألا نلاعنك ، ونتركك على دينك ، ونرجعَ على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم{[5107]} عندنا رضًا .
قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائْتُونِي الْعَشِيَّة أبعث معكم القوي الأمين " ، فَكان{[5108]} عمر بن الخطاب يقول : ما أحببت الإمارة قَطّ حُبّي إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فَرُحْتُ إلى الظهر مُهَجّرا ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ سلَّم ، ثم نَظَر عن يمينه وعن يساره ، فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يَزَلْ يلتمس ببصره حتى رأى أبا عُبَيدة بن الجَرَّاح ، فدعاه : " اخْرُجْ معهم ، فَاقْضِ بينهم بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ " . قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة ، رضي الله عنه{[5109]} .
وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن{[5110]} قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خُدَيْج : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، إلا أنه قال في الأشراف : كانوا اثني عشر . وذكر بقيته بأطول من هذا السياق ، وزيادات أخَر .
وقال البخاري : حدثنا عباس بن الحسين ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن صِلَة بن زُفَر ، عن حذيفة قال : جاء العاقبُ والسيدُ صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تَفْعَلْ ، فوالله إن{[5111]} كان نبيا فلاعناه لا نفلحُ نحنُ ولا عَقبنا من بعدنا . قالا إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلا أمينًا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : " لأبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلا أمينًا{[5112]} حَقَّ أمِينٍ " ، فاستشرفَ لها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " قُمْ يَا أبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحٍِ " فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هَذَا أمِينُ هذه الأمَّةِ " .
[ و ]{[5113]} رواه البخاري أيضا ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة{[5114]} من طرق عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن صِلَة ، عن حذيفة ، بنحوه .
وقد رواه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجة ، من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن صلَة عن ابن مسعود ، بنحوه{[5115]} .
وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن خالد ، عن أبي قِلابة ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل أُمَّةٍ أمينٌ وأمين هذه الأمَّة أبُو عبيدة بْنُ الْجَرَّاحِ " {[5116]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرَّقِّي أبو يزيد ، حدثنا فُرَات ، عن عبد الكريم ابن مالك الجزَري " عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل : إن رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطَأ على عنقه . قال : فقال : " لو فعلَ لأخَذته الملائكةُ عيانًا ، ولو أن اليهود تمنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرَجَعوا لا يجدون مالا ولا أهلا " {[5117]} .
وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن عبد الكريم ، به . وقال الترمذي : [ حديث ]{[5118]} حسن صحيح{[5119]} .
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصَّة وَفْد نَجْران مطولة جدًا ، ولنذكره فإن فيه فوائدَ كثيرة ، وفيه غرابة وفيه مناسبة لهذا المقام ، قال البيهقي :
حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل ، قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن سلمة بن عبدِ يَسُوع ، عن أبيه ، عن جده قال يونس - وكان نصرانيا فأسلم - : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان : " بِاسْم إلَهِ إِبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ ، مِنْ مُحَمَّدٍ الَّنِبيِّ رَسُولِ اللهِ إلَى أسْقف نَجْرانَ وأهْلِ نَجْرانَ سِلْم{[5120]} أَنْتُم ، فإنِّي أحْمَدُ إلَيْكُمْ إلَهَ إبْرَاهِيمَ وإِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ . أَمَّا بَعْدُ ، فإنِّي أَدْعُوكُم إلَى عِبَادَةِ اللهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ ، وأدْعُوكُمْ إلَى وِلايَةِ اللهِ مِنْ وِلايَةِ الْعِبَادِ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةُ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ{[5121]} آذَنْتُكُمْ بِحَرْبٍ والسَّلامُ " .
فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه فَظعَ به ، وذَعَره ذُعرًا شديدًا ، وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له : شُرَحْبيل بن وَداعة - وكان من هَمْدان ولم يكن أحد يُدْعَى إذا نزلت مُعْضلة قَبْلَه ، لا الأيهم ولا السِّيد ولا العاقب - فدفع الأسْقُفُ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شُرَحْبيل ، فقرأه ، فقال الأسقف : يا أبا مريمَ ، ما رأيك{[5122]} ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة ، فما يُؤْمنُ أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، ولو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي ، وجَهِدتُ لك ، فقال له الأسقف : تَنَحَّ فاجلس . فَتَنَحَّى شرحبيل فجلس ناحية ، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران ، يقال له : عبد الله بن شرحبيل ، وهو من ذي أصبح من حمْير ، فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل ، فقال له الأسقف : فاجلس ، فتَنَحى فجلس ناحية . وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران ، يقال له : جبار بن فيض ، من بني الحارث بن كعب ، أحد بني الحماس ، فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شُرَحبيل وعبد الله ، فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحية .
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعًا ، أمر الأسقف بالناقوس فضُرب به ، ورُفعت النيران والمسوح في الصوامع ، وكذلك كانوا يفعلون إذا فَزعوا بالنهار ، وإذا كان فزعُهم ليلا ضربوا بالناقوس ، ورفعت النيران في الصوامع ، فاجتمعوا{[5123]} حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله - وطولُ الوادي مَسِيرة يوم للراكب السريع ، وفيه ثلاث وسبعون قرية ، وعشرون ومائة ألف مقاتل . فقرأ عليهم كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألهم عن الرأي فيه ، فاجتمع رأيُ أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن ودَاعة الهمداني ، وعبد الله ابن شُرَحبيل الأصبحي ، وجبار بن فيض الحارثي ، فيأتونهم{[5124]} بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ، ولبسوا حُلَلا لهم يجرونها من حبرة ، وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه ، فلم يرد عليهم{[5125]} وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب . فانطلقوا يتبعون عثمان ابن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، وكانا مَعْرفة لهم ، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس ، فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن ، إن نبيكم كتب إلينا بكتاب ، فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما ، أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب - وهو في القوم - : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال عَليّ لعثمان ولعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حُللهم هذه وخواتيمهم ، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه . ففعلوا فسلموا ، فرد سلامهم ، ثم قال : " والَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لَقَدْ أَتَوْنِي الْمرَّةَ الأولَى ، وإنَّ إبْلِيسَ لَمَعَهُم " ثم ساءلهم وساءلوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا : ما تقول في عيسى ، فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ، يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه{[5126]} ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا عِنْدِي فِيهِ شيء يَوْمِي هَذَا ، فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِرَكُمْ بما{[5127]} يقول لي رَبِّي في عيسَى " . فأصبح الغد وقد أنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى ]{[5128]} الْكَاذِبِينَ } فأبوا أن يقروا بذلك ، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر ، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خَمِيل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل لصاحبيه : قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي{[5129]} وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا ، فكنا أول العرب طعن في عينيه{[5130]} ورد عليه أمره ، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة ، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا ، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعَنَّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شَعْر ولا ظُفُر إلا هلك . فقال{[5131]} له صاحباه : يا أبا مريم ، فما الرأي ؟ فقال : أرى{[5132]} أن أحكمه ، فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا . فقالا له : أنت وذاك . قال : فلقي{[5133]} شرحبيلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك . فقال : " وما هو ؟ " فقال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَعَلَّ وَرَاءكَ أحَدًا يَثْرِبُ عَلْيكَ ؟ " فقال شرحبيل : سل صاحبي . فسألهما فقالا ما يرد الوادي ولا يَصْدرُ إلا عن رأي شرحبيل : فَرَجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم ، حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب : " بِسْم الله الرحمنِ الرَّحِيم ، هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِي رَسُولُ اللهِ لِنَجْرَانَ - إنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ - فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَكُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَودَاءَ وَرَقِيقٍ فَاضِلٍ {[5134]} عَلَيْهِمْ ، وتَرْك ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ ، عَلَى أَلْفَي حُلَّةٍ ، فِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ ، وفِي كُلِّ صَفَرٍ ألْفُ حُلَّةٍ " وذكر تمام الشروط وبقية السياق{[5135]} .
والغرض أن وفودهم{[5136]} كان في سنة تسع ؛ لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح ، وهي قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون ]َ{[5137]} } [ التوبة : 29 ] .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن داود المكي ، حدثنا بشر بن مهران ، أخبرنا محمد بن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه{[5138]} الغداة . قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فَأَبَيَا أن يجيئا{[5139]} وأقَرَّا بالخراج ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي بَعَثَني بالْحَقِّ لَوْ قَالا لا لأمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي{[5140]} نارًا " قال جابر : فيهم نزلت { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } قال جابر : { وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب { وَأَبْنَاءَنَا } {[5141]} الحسن والحسين { وَنِسَاءَنَا } فاطمة .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن عيسى ، عن أحمد بن محمد الأزهري{[5142]} عن علي بن حُجْر ، عن علي بن مُسْهِر ، عن داود بن أبي هند ، به بمعناه . ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[5143]} .
هكذا قال : وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن المغيرة {[5144]} عن الشعبي مرسلا وهذا أصح{[5145]} وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .
تفريع على قوله : { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } لما فيه من إيماء إلى أنّ وفد نجران ممترون في هذا الذي بَيّن الله لهم في هذه الآيات : أي فإن استمرّوا على محاجتهم إياك مكابرةً في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة . ذلك أنّ تصْميمَهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محْضة بعد ما جاءك من العلم وبينتَ لهم ، فلم يبق أوضحُ مما حاجَجْتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة ، وقلة يقين ، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا .
و { تعالوا } اسم فعل لطلب القدوم ، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قَصد العلوّ ، فكأنّهم أرادوا به في الأصل أمراً بالصعود إلى مكان عالٍ تشريفاً للمدعُو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور ، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني :
أيَا جَارَتَا مَا أنْصَفَ الدهرُ بيننا *** تَعَالِي أقَاسِمْكِ الهُمُومَ تَعَالِي
ومعنى { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره ، والمقصود هو قوله : { ثم نبتهل } إلى آخره .
والابتهال مشتق من البَهْل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقاً لأنّ الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول .
ومعنى { فنجعل لعنت الله } فنَدْعُ بإيقاع اللعنة على الكاذبين . وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاءٌ لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يَكفُوا . روى المفسرون وأهل السيرة أنّ وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب : نلاعنه فوالله لئن كان نبيئاً فلاعننا لا نفلح أبداً ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي .
وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم .
وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء : لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا ، عُلم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب { أرَهْطِيَ أعَزُّ علَيكم من الله } وأنه يخشى سوء العيش ، وفقدان الأهل ، ولا يخشى عذاب الآخرة .
والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارَك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين ، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللاّئي كُنَّ معهم .
والنساء : الأزواج لا محالة ، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا وَرَد غير مضاف ، قال تعالى : { يا نساء النبيء لستُنّ كأحدٍ من النساء } [ الأحزاب : 32 ] وقال : { ونساء المؤمنين } وقال النابغة :
حِذارَا على أنْ لاَ تُنَالَ مَقَادَتِي *** ولاَ نِسْوَتِي حَتى يَمُتْن حَرائرا
والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم ، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم ، ويحتمل أنه يشمل الصبيان ، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة .
والابتهال افتعال من البهل ، وهو اللعن ، يقال : بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بَهلة وبُهلة بالضم والفتح ثم استعمل الابتهال مجازاً مشهوراً في مطلق الدعاء قال الأعشى :
لا تقعدنَّ وقد أكَّلّتَها حطباً . . . تعوذ من شرّها يوماً وتبتهل
وهو المراد هنا بدليل أنّه فرّع عليه قوله : { فنجعل لعنت الله على الكاذبين } .
وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلاّ واثق بأنه على الحق . وهذه المباهلة لم تقع لأنّ نصارى نجران لم يستجيبوا إليها . وقد روى أبو نعيم في الدلائل أنّ النبي هيأ علياً وفاطمةً وحَسَناً وحُسَيناً ليصحبهم معه للمباهلة . ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين .