قوله تعالى : { الله يستهزئ بهم } . أي جزاء استهزائهم سمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته كما قال الله تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) قال ابن عباس : هو أن يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم ، وردوا إلى النار . وقيل هو أن يضرب للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبين المؤمنين كما قال الله تعالى : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) وقال الله تعالى : ( فضرب بينهم بسور له باب ) الآية وقال الحسن معناه : الله يظهر المؤمنين على نفاقهم .
قوله تعالى : { ويمدهم } . يتركهم ويمهلهم . والمد والإمداد واحد ، وأصله الزيادة إلا أن المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير ، قال الله تعالى في المد ( ونمد له من العذاب مداً ) وقال في الإمداد ( وأمددناكم بأموال وبنين ) ( وأمددناهم بفاكهة ) .
قوله تعالى : { في طغيانهم } . أي في ضلالتهم ، وأصله مجاوزة الحد . ومنه ( طغى الماء ) .
قال تعالى : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذا جزاء لهم ، على استهزائهم بعباده ، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة ، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين ، لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم ، ومن استهزائه بهم يوم القيامة ، أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا ، فإذا مشي المؤمنون بنورهم ، طفئ نور المنافقين ، وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين ، فما أعظم اليأس بعد الطمع ، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } الآية .
قوله : { وَيَمُدُّهُمْ } أي : يزيدهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي : فجورهم وكفرهم ، { يَعْمَهُونَ } أي : حائرون مترددون ، وهذا من استهزائه تعالى بهم .
وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
وقال{[1283]} ابن جرير : أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة ، في قوله : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } الآية [ الحديد : 13 ] ، وقوله تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] . قال : فهذا وما أشبهه ، من استهزاء الله ، تعالى ذكره ، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين ، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ، ومتأول هذا التأويل .
قال : وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه ، والكفر به .
قال : وقال آخرون : هذا وأمثاله على سبيل الجواب ، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به : أنا الذي خدعتك . ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه ، قالوا : وكذلك قوله : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ آل عمران : 54 ] و { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } على الجواب ، والله
لا يكون منه المكر ولا الهزء ، والمعنى : أن المكر والهُزْء حَاق بهم .
وقال آخرون : قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } وقوله { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ، وقوله { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] و { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] وما أشبه ذلك ، إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم{[1284]} جَزَاءَ الاستهزاء ، ويعاقبهم{[1285]} عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] وقوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] ، فالأول ظلم ، والثاني عدل ، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما .
قال : وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك .
قال : وقال آخرون : إن معنى ذلك : أنّ الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم قالوا : إنا معكم على دينكم ، في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما يظهر لهم - من قولنا لهم : صدقنا بمحمد ، عليه السلام ، وما جاء به مستهزئون ؛ فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم ، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا ، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة ، يعني من العذاب والنكال{[1286]} .
ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره ؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله ، عز وجل ، بالإجماع ، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك .
قال : وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان ، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } قال : يسخر بهم للنقمة منهم .
وقوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال السدي : عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن أناس{[1287]} من الصحابة [ قالوا ]{[1288]} يَمدهم : يملي لهم .
قال ابن جرير : والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم ، كما قال : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] .
والطغيان : هو المجاوزة في الشيء . كما قال : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } [ الحاقة : 11 ] ، وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في كفرهم يترددون .
وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة ، وبه يقول أبو العالية ، وقتادة ، والرّبيع بن أنس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد : في كفرهم وضلالتهم .
قال ابن جرير : والعَمَه : الضلال ، يقال : عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا : إذا ضل .
قال : وقوله : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في ضلالهم{[1289]} وكفرهم الذي غمرهم دَنَسُه ، وعَلاهم رجْسه ، يترددون [ حيارى ]{[1290]} ضُلالا{[1291]} لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا ؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رُشْدًا ، ولا يهتدون سبيلا .
[ وقال بعضهم : العمى في العين ، والعمه في القلب ، وقد يستعمل العمى في القلب - أيضا - : قال الله تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ويقال : عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه ، وجمعه عمّه ، وذهبت إبله العمهاء : إذا لم يدر أين ذهبت{[1292]} .
{ الله يستهزئ بهم } يجازيهم على استهزائهم ، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة ، إما لمقابلة اللفظ باللفظ ، أو لكونه مماثلا له في القدر ، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم أو ينزل بهم ، الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء ، أو الغرض منه ، أو يعاملهم معاملة المستهزئ : أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم ، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان ، وأما في الآخرة : فبأن يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه ، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب ، وذلك قوله تعالى : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى تولى مجازاتهم ، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم ، وأن استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل الله تعالى بهم ولعله لم يقل : الله مستهزئ بهم ليطابق قولهم ، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا ويتجدد حينا بعد حين ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال تعالى : { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } . { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه ، ومنه مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد ، لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له . ويدل عليه قراءة ابن كثير { ويمدهم } . والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا : لما منعهم الله تعالى ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، وسدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة ، تزايد قلوب المؤمنين انشراحا ونورا ، وأمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغيانا ، أسند ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازا ، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة ، ومصداق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي وقال { وإخوانهم يمدونهم في الغي } . أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم ويمد في أعمارهم كي يتنبهوا ويطيعوا ، فما زادوا إلا طغيانا وعمها ، فحذفت اللام وعدي الفعل بنفسه كما في قوله تعالى : { واختار موسى قومه } . أو التقدير يمدهم استصلاحا ، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم . والطغيان بالضم والكسر كلقيان ، والطغيان : تجاوز الحد في العتو : والغلو في الكفر ، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه قال تعالى : { إنا لما طغى الماء حملناكم } . والعمه في البصيرة كالعمى في البصر ، وهو : التحير في الأمر يقال رجل عامه وعمه ، وأرض عمهاء لا منار بها ، قال
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 15 )
اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء فقال جمهور العلماء : «هي تسمية العقوبة باسم الذنب »( {[256]} ) . والعرب تستعمل ذلك كثيراً ، ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ] .
ألا لا يجهلنْ أحد علينا . . . فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال قوم : إن الله تعالى يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البشر هزو( {[257]} ) حسبما يروى أن النار تجمدت كما تجمد الإهالة( {[258]} ) فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم ، وما يروى أن أبواب النار تفتح لهم فيذهبون إلى الخروج( {[259]} ) ، نحا هذا المنحى( {[260]} ) ابن عباس والحسن ، وقال قوم : استهزاؤه بهم هو استدارجهم من حيث لا يعلمون( {[261]} ) ، وذلك أنهم بدرور نعم الله الدنيوية عليهم يظنون أنه راض عنهم وهو تعالى قد حتم عذابهم ، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء .
{ ويمدهم } معناه يزيدهم في الطغيان . وقال مجاهد : «معناه يملي لهم » ، قال يونس بن حبيب : «يقال مد في الشر وأمد في الخير »( {[262]} ) وقال غيره : «مد الشيء ومده ما كان مثله ومن جنسه( {[263]} ) ، وأمدّه ما كان مغايراً له ، تقول : مدّ النهر ومدّه نهر آخر ، ويقال أمدّه » .
قال اللحياني : «يقال لكل شيء دخل فيه مثله فكثره مده يمده مدّاً ، وفي التنزيل : { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر }( {[264]} ) [ لقمان : 27 ] . ومادة الشيء ما يمده دخلت فيه الهاء للمبالغة » .
قال ابن قتيبة وغيره : «مَدَدْت الدواة وأمَددْتُها بمعنى » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يشبه أن يكون «مددتها » جعلت إلى مدادها آخر ، و «أمددتها » جعلتها ذات مداد ، مثل «قبر ، وأقبر ، وحصر ، وأحصر » ، ومددنا القوم صرنا لهم أنصاراً ، وأمددناهم بغيرنا . وحكى اللحياني أيضاً أمدّ الأمير جنده بالخيل ، وفي التنزيل : { وأمددناكم بأموال وبنين }( {[265]} ) [ الإسراء : 6 ] .
قال بعض اللغويين : { ويمدهم في طغيانهم } يمهلهم ويلجهم( {[266]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فتحتمل اللفظة أن تكون من المد الذي هو المطل والتطويل( {[267]} ) ، كما فسر في : { عمد ممددة } [ الهمزة : 9 ] . ويحتمل أن تكون من معنى الزيادة في نفس الطغيان ، والطغيان الغلو وتعدي الحد كما يقال : «طغا الماء وطغت النار » . وروي عن الكسائي إمالة طغيانهم .
و { يعمهون } يترددون ، حيرة ، والعمه الحيرة من جهة النظر ، والعامه الذي كأنه لا يبصر من التحير في ظلام أو فلاة أو هم .
{ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } .
لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مقدر ، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين { آمنا } [ البقرة : 14 ] وقولهم لشياطينهم { إنا معكم } [ البقرة : 14 ] الخ . يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم ، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين ، ومَن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله : { الله يستهزىء بهم } غاية الفخامة والجزالة ، وهو أيضاً واقع موقع الاعتراض والأكثر في الاعتراض ترك العاطف . وذكر { يستهزىءُ } دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم . ولأجل اعتبار الاستئناف قُدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي . ولم يقل يستهزىء اللَّهُ بهم لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول مَن الذي يتولى مقابلة سُوء صنيعهم فأُعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى ، وفي ذلك تنويه بشأن المنتصَر لهم وهم المؤمنون كما قال تعالى : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } [ الحج : 38 ] فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوي الحكم لا محالة ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوي الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب « الكشاف » كما صَرح به في قوله تعالى : { والله يقدر الليل والنهار } في سورة المزمل ( 20 ) ، كان الجمع بين قصد التقوي وقصد التخصيص جائزاً في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في عند قوله تعالى : { فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } في سورة الجن ( 13 ) ، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حملُ الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام ، ولذلك يقال النكتُ لا تتزاحم .
كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبيء عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم ولذلك قال عبد الله بن أبيّ : { ليُخرجَن الأعزُّ منها الأَذَلَّ } [ المنافقون : 8 ] فقال الله تعالى : { ولله العزة ولرسوله } [ المنافقون : 8 ] فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوي إذ لا مقتضي له .
وفعل : { يستهزىء } المسند إلى الله ليس مستعملاً في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يُسمى بالاستهزاء بدليل قوله : { ويمدهم في طغيانهم } ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين ، بما يشبه فعل المستهزىء بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راضٍ عنهم أو أن أَصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلافَ ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم . والمضارع في قوله : { يستهزىء } لزمن الحال .
ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا ، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة . ويجوز أن يكون { يستهزىء بهم } حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في { يستهزىء } للاستقبال ، وإلى هذا المعنى نَحَا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية ، ويجوز أن يكون مراداً به جزاءُ استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازاً ومشاكلة ، أو مراداً به مآلُ الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم . وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضاً لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعلٌ قبيحٌ ينزه الله تعالى عنه كما في « الكشاف » وهو مبني على المتعارف بين الناس .
وجيء في حكاية كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم { إنما نحن مستهزئون } [ البقرة : 14 ] لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه .
وجيء في قوله : { الله يستهزىء بهم } بإفادة التجدد من الفعل المضارع أي تجدد إملاء الله لهم زماناً إلى أن يأخذهم العذاب ، ليعلم المسلمون أن ما عليه أهل النفاق من النعمة إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ] .
{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } .
يتعين أنه معطوف على { الله يستهزىء بهم } .
و ( يمد ) فعل مشتق من المَدَد وهو الزيادة ، يقال مَدَّه إذا زاده وهو الأصل في الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد ، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي ، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مَدد ثم غلب استعمال مَد في الزيادة في ذات المفعول نحو مَدَّ له في عُمره ومَدَّ الأرض أي مططها وأطالها ، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش : { أمدكم بأنعام وبنين } [ الشعراء : 133 ] . وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل لا فرق بينهما في الاستعمال وقيل يختص أمد المهموز بالخير نحو : { أتُمِدُّونني بمالَ } [ النمل : 36 ] { أن ما نُمِدُّهم به من مال } [ المؤمنون : 55 ] ، ويختص مَد بغير الخير ونقل ذلك عن أبي علي الفارسي في كتاب « الحجة » ، ونقله ابن عطية عن يونس بن حَبيب ، إلا المعدَّى باللام فإنه خاص بالزيادة في العمر والإمهالِ فيه عند الزمخشري وغيره خلافاً لبعض اللغويين فاستغنوا بذكر اللام المؤذنة بأن ذلك للنفع وللأجْل ( بسكون الجيم ) عن التفرقة بالهمز رجوعاً للأصل لئلا يجمعوا بين ما يقتضي التعدية وهو الهمزة وبين ما يقتضي القصور وهو لام الجر ، وكل هذا من تأثير الأمثلة على الناظرين وهي طريقة لهم في كثير من الأفعال التي يتفرع معناها الوضعي إلى معان جزئية له أو مقيدة أو مجازية أن يخصوا بعْض لغاته أو بعض أحواله ببعض تلك المعاني جرياً وراء التنصيص في الكلام ودفع اللبس بقدر الإمكان .
وهذا من دقائق استعمال اللغة العربية ، فلا يقال إن دعوى اختصاص بعض الاستعمالات ببعض المعاني هي دعوى اشتراك أو دعوى مجاز وكلاهما خلاف الأصل كما أورد عبد الحكيم ؛ لأن ذلك التخصيص كما علمت اصطلاح في الاستعمال لا تعدد وضع ولا استعمالٌ في غير المعنى الموضوع له ونظير ذلك قولهم فَرقَ وفَرَّق ووعَد وأوْعد ونَشَد وأنشد ونَزَّل ( المضاعف ) وأنزل ، وقولهم العِثار مصدر عثر إذ أريد بالفعل الحقيقة ، والعُثور مصدر عثر إذ أريد بالفعل المجاز وهو الاطلاع ، وقد فرقت العرب في مصادر الفعل الواحد وفي جموع الاسم الواحد لاختلاف القيود .
وتعدية فعل ( يمد ) إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان جاءت على طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل الاشتمال وجعل الزجاج والواحدي أصله ويمد لهم في طغيانهم فحذف لام الجر واتصل الفعل بالمجرور على طريقة نزع الخافض وليس بذلك .
والطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران ، وهو مبالغة في الطغْي وهو الإفراط في الشر والكِبْر وتعليق فعل { يمدهم } هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله : { في طغيانهم } ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله : { الله يستهزىء بهم } وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بُعد .
والعَمَهُ انطماس البصيرة وتحير الرأي وفعله عَمِهَ فهو عامه وأعمه .
وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله : { ويمدهم } إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها . فالنفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره أن لا ينقطع عنها ، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكونها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلاً من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم ، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضياً استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده ، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو : بنى الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو : يزيدك وجهه حسناً وسرتني رؤيتك ؛ لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر : إنه من المجاز الذي لا حقيقة له .
وإنما أضاف الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل في الطغيان بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف : ( 202 ) { وإخوانُهم يُمِدُّونهم في الغيّ } إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وإنهم اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم . والظرف متعلق بيمدهم و{ يعمهون } جملة حالية .