البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

{ الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون } المد : التطويل ، مدّ الشيء : طوّله وبسطه ، { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظلّ } وأصل المد : الزيادة ، وكل شيء دخل في شيء فكثره فقد مدّه ، قاله اللحياني .

وأمدّ بمعنى مدّ ، مدّ الجيش ، وأمدّه : زاده وألحق به ما يقويه من جنسه .

وقال بعض أهل العلم : مدّ زاد من الجنس ، وأمدّ : زاد من غير الجنس .

وقال يونس : مدّ في الخير وأمدّ في الشر .

انتهى قوله .

ويقال : مدّ النهر وأمدّه نهر آخر ، ومادّة الشيء ما يمدّه ، الهاء فيه للمبالغة .

وقال ابن قتيبة : مددت الدواة وأمددتها بمعنى ، ويقال : مددنا القوم : صرنا لهم أنصاراً وأمددناهم بغيرنا .

وقال اللحياني : أمد الأمير جنده بالخيل ، وفي التنزيل : { وأمددناكم بأموال وبنين } الطغيان : مجاوزة المقدار المعلوم ، يقال طغى الماء ، وطغت النار .

العمه : التردد والتحير ، وهو شبيه بالعمى ، إلا أن العمى توصف به العين التي ذهب نورها ، والرأي الذي غاب عنه الصواب .

يقال : عمه ، يعمه ، عمهاً ، وعمهاناً فهو : عمه ، وعامه .

ويقال : برية عمهاء إذا لم يكن بها علم يستدل به .

وقال ابن قتيبة : العمه أن يركب رأسه ولا يبصر ما يأتي .

وقيل : العمه : العمى عن الرشد .

والدواعي إلى الاستهزاء : خوف الأذى ، واستجلاب النفع ، والهزل ، واللعب .

والله تعالى منزه عن ذلك ، فلا يصح إضافة الاستهزاء الذي هذه دواعيه إلى الله تعالى .

فيحتمل أن يكون الاستهزاء المسند إلى الله تعالى كناية عن مجازاته لهم ، وأطلق اسم الاستهزاء على المجازاة ليعلم أن ذلك جزاء الاستهزاء ، أو عن معاملته لهم بمثل ما عاملوا به المؤمنين ، فأجرى عليهم أحكام المؤمنين من حقن الدم ، وصون المال ، والإشراك في المغنم ، مع علمه بكفرهم .

وأطلق على الشيء ما أشبهه صورة لا معنى ، أو عن التوطئة والتجهيل ، لإقامتهم على كفرهم ، وسمى التوطئة لهم استهزاء لأنه لم يعجل لهم العقوبة ، بل أملى ، وأخرهم إلى الآخرة ، أو عن فتح باب الجنة فيسرعون إليه فيغلق ، فيضحك منهم المؤمنون ، أو عن خمود النار فيمشون فيخسف بهم ، أو عن ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وهو السور المذكور في الحديد ، أو عن قوله تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } أو عن تجديد الله لهم نعمة كلما أحدثوا ذنباً ، فيظنون أن ذلك لمحبة الله لهم ، أو عن الحيلولة بين المنافقين وبين النور الذي يعطاه المؤمنون ، كما ذكروا أنه روي في الحديث ، أو عن طردهم عن الجنة ، إذا أمر بناس منهم إلى الجنة ودنوا منها ووجدوا ريحها ونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها ، وهو حديث فيه طول ، روي عن عدي بن حاتم ، ونحا هذا المنحى ابن عباس ، والحسن .

وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم ، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحارب من حاربهم .

وفي افتتاح الجملة باسم التفخيم العظيم ، حيث صدرت الجملة به ، وجعل الخبر فعلاً مضارعاً يدل عندهم على التجدد والتكرر ، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبرية في قولهم ، ثم في ذلك التنصيص على الذين يستهزئ الله بهم ، إذ عدى الفعل إليهم فقال : يستهزئ بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلق به الاستهزاء ، فلم يقولوا : إنما نحن مستهزءون بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم ، فأبقوا اللفظ محتملاً أن لو حققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزءوا بالمؤمنين .

ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وبقولهم : إذا لقوهم قالوا آمنا فهم ، عند لقائهم لا يستطيعون إظهار المداراة ، ولا مشاركتهم بما يكرهون ، بل يظهرون الطواعية والانقياد .

وقرأ ابن محيصن وشبل : يمدهم وتروى عن ابن كثير : ونسبة المد إلى الله حقيقة ، إذ هو موجد الأشياء والمنفرد باختراعها .

والمعنى : أن الله تعالى يطول لهم في الطغيان .

وقد ذهب الزمخشري إلى تأويل المد المنسوب إلى الله تعالى بأنه منع الألطاف وخذلانهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، بقيت قلوبهم تتزايد الظلمة فيها تزايد النور في قلوب المؤمنين ، فسمى ذلك التزايد مداً وأسند إلى الله لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم ، أو بأن المد هو على معنى القسر والإلجاء .

قال : أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عبادة ، وإنما ذهب إلى التأويل في المد لأن مد الله لهم في الطغيان قبيح ، والله منزه عن فعل القبيح .

والتأويل الأول الذي ذكره الزمخشري : قول الكعبي ، وأبي مسلم .

وقال الجبائي : هو المد في العمر ، وعندنا نحن أن الله خالق الخير والشر ، وهو الهادي والمضل .

وقد تقدم الكلام في نحو من هذا عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } ومد الله في طغيانهم ، التمكين من العصيان ، قاله ابن مسعود ، أو الإملاء ، قاله ابن عباس ، أو الزيادة من الطغيان ، قاله مجاهد ، أو الإمهال ، قاله الزجاج وابن كيسان ، أو تكثير الأموال ، والأولاد ، وتطييب الحياة ، أو تطويل الأعمار ، ومعافاة الأبدان ، وصرف الرزايا ، وتكثير الأرزاق .

وقرأ زيد بن علي : في طغيانهم بكسر الطاء ، وهي لغة ، يقال : طغيان بالضم والكسر ، كما قالوا : القيان ، وغينان ، بالضم والكسر .

وأمال الكسائي في طغيانهم ، وأضاف الطغيان إليهم لأنه فعلهم وكسبهم ، وكل فعل صدر من العبد صحت إضافته إليه بالمباشرة ، وإلى الله بالاختراع .

وما فسر به العمه يحتمله قوله تعالى : { يعمهون } ، فيكون المعنى : يترددون ويتحيرون ، أو يعمون عن رشدهم ، أو يركبون رؤوسهم ولا يبصرون .

قال بعض المفسرين : وهذا التفسير الأخير أقرب إلى الصواب لأنهم لم يكونوا مترددين في كفرهم ، بل كانوا مصرين عليه ، معتقدين أنه الحق ، وما سواه الباطل .

يعمهون : جملة في موضع الحال ، نصب على الحال ، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل ، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقاً بيمدهم ، ويحتمل أن يكون متعلقاً بيعمهون .

ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم ، قال : لأن العامل لا يعمل في حالين .

انتهى كلامه .

وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد ، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحدة ، فإن كانا لذوي حال جاز ، نحو : لقيت زيداً مصعداً منحدراً فأما إذا كانا لذي حال واحد ، كما ذكرناه ، ففي إجازة ذلك خلاف .

ذهب قوم إلى أن لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين ، ولا ظرفي زمان ، ولا ظرفي مكان ، فكذلك لا يقضي حالين .

وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل ، أو معطوفاً ، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة .

قال : بعضهم : إلا أفعل التفضيل ، فإنها تعمل في ظرفي زمان ، وظرفي مكان ، وحالين لذي حال ، فإن ذلك يجوز ، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور .

وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد ، وإلى هذا أذهب ، لأن الفعل الصادر من فاعل ، أو الواقع بمفعول ، يستحيل وقوعه في زمانين ، وفي مكانين .

وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد ، إلا إن كانا ضدين ، أو نقيضين .

فيجوز أن تقول : جاء زيد ضاحكاً راكباً ، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين .

فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد ، والعامل فيهما واحد .