{ الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون } المد : التطويل ، مدّ الشيء : طوّله وبسطه ، { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظلّ } وأصل المد : الزيادة ، وكل شيء دخل في شيء فكثره فقد مدّه ، قاله اللحياني .
وأمدّ بمعنى مدّ ، مدّ الجيش ، وأمدّه : زاده وألحق به ما يقويه من جنسه .
وقال بعض أهل العلم : مدّ زاد من الجنس ، وأمدّ : زاد من غير الجنس .
وقال يونس : مدّ في الخير وأمدّ في الشر .
ويقال : مدّ النهر وأمدّه نهر آخر ، ومادّة الشيء ما يمدّه ، الهاء فيه للمبالغة .
وقال ابن قتيبة : مددت الدواة وأمددتها بمعنى ، ويقال : مددنا القوم : صرنا لهم أنصاراً وأمددناهم بغيرنا .
وقال اللحياني : أمد الأمير جنده بالخيل ، وفي التنزيل : { وأمددناكم بأموال وبنين } الطغيان : مجاوزة المقدار المعلوم ، يقال طغى الماء ، وطغت النار .
العمه : التردد والتحير ، وهو شبيه بالعمى ، إلا أن العمى توصف به العين التي ذهب نورها ، والرأي الذي غاب عنه الصواب .
يقال : عمه ، يعمه ، عمهاً ، وعمهاناً فهو : عمه ، وعامه .
ويقال : برية عمهاء إذا لم يكن بها علم يستدل به .
وقال ابن قتيبة : العمه أن يركب رأسه ولا يبصر ما يأتي .
وقيل : العمه : العمى عن الرشد .
والدواعي إلى الاستهزاء : خوف الأذى ، واستجلاب النفع ، والهزل ، واللعب .
والله تعالى منزه عن ذلك ، فلا يصح إضافة الاستهزاء الذي هذه دواعيه إلى الله تعالى .
فيحتمل أن يكون الاستهزاء المسند إلى الله تعالى كناية عن مجازاته لهم ، وأطلق اسم الاستهزاء على المجازاة ليعلم أن ذلك جزاء الاستهزاء ، أو عن معاملته لهم بمثل ما عاملوا به المؤمنين ، فأجرى عليهم أحكام المؤمنين من حقن الدم ، وصون المال ، والإشراك في المغنم ، مع علمه بكفرهم .
وأطلق على الشيء ما أشبهه صورة لا معنى ، أو عن التوطئة والتجهيل ، لإقامتهم على كفرهم ، وسمى التوطئة لهم استهزاء لأنه لم يعجل لهم العقوبة ، بل أملى ، وأخرهم إلى الآخرة ، أو عن فتح باب الجنة فيسرعون إليه فيغلق ، فيضحك منهم المؤمنون ، أو عن خمود النار فيمشون فيخسف بهم ، أو عن ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وهو السور المذكور في الحديد ، أو عن قوله تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } أو عن تجديد الله لهم نعمة كلما أحدثوا ذنباً ، فيظنون أن ذلك لمحبة الله لهم ، أو عن الحيلولة بين المنافقين وبين النور الذي يعطاه المؤمنون ، كما ذكروا أنه روي في الحديث ، أو عن طردهم عن الجنة ، إذا أمر بناس منهم إلى الجنة ودنوا منها ووجدوا ريحها ونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها ، وهو حديث فيه طول ، روي عن عدي بن حاتم ، ونحا هذا المنحى ابن عباس ، والحسن .
وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم ، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحارب من حاربهم .
وفي افتتاح الجملة باسم التفخيم العظيم ، حيث صدرت الجملة به ، وجعل الخبر فعلاً مضارعاً يدل عندهم على التجدد والتكرر ، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبرية في قولهم ، ثم في ذلك التنصيص على الذين يستهزئ الله بهم ، إذ عدى الفعل إليهم فقال : يستهزئ بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلق به الاستهزاء ، فلم يقولوا : إنما نحن مستهزءون بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم ، فأبقوا اللفظ محتملاً أن لو حققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزءوا بالمؤمنين .
ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وبقولهم : إذا لقوهم قالوا آمنا فهم ، عند لقائهم لا يستطيعون إظهار المداراة ، ولا مشاركتهم بما يكرهون ، بل يظهرون الطواعية والانقياد .
وقرأ ابن محيصن وشبل : يمدهم وتروى عن ابن كثير : ونسبة المد إلى الله حقيقة ، إذ هو موجد الأشياء والمنفرد باختراعها .
والمعنى : أن الله تعالى يطول لهم في الطغيان .
وقد ذهب الزمخشري إلى تأويل المد المنسوب إلى الله تعالى بأنه منع الألطاف وخذلانهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، بقيت قلوبهم تتزايد الظلمة فيها تزايد النور في قلوب المؤمنين ، فسمى ذلك التزايد مداً وأسند إلى الله لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم ، أو بأن المد هو على معنى القسر والإلجاء .
قال : أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عبادة ، وإنما ذهب إلى التأويل في المد لأن مد الله لهم في الطغيان قبيح ، والله منزه عن فعل القبيح .
والتأويل الأول الذي ذكره الزمخشري : قول الكعبي ، وأبي مسلم .
وقال الجبائي : هو المد في العمر ، وعندنا نحن أن الله خالق الخير والشر ، وهو الهادي والمضل .
وقد تقدم الكلام في نحو من هذا عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } ومد الله في طغيانهم ، التمكين من العصيان ، قاله ابن مسعود ، أو الإملاء ، قاله ابن عباس ، أو الزيادة من الطغيان ، قاله مجاهد ، أو الإمهال ، قاله الزجاج وابن كيسان ، أو تكثير الأموال ، والأولاد ، وتطييب الحياة ، أو تطويل الأعمار ، ومعافاة الأبدان ، وصرف الرزايا ، وتكثير الأرزاق .
وقرأ زيد بن علي : في طغيانهم بكسر الطاء ، وهي لغة ، يقال : طغيان بالضم والكسر ، كما قالوا : القيان ، وغينان ، بالضم والكسر .
وأمال الكسائي في طغيانهم ، وأضاف الطغيان إليهم لأنه فعلهم وكسبهم ، وكل فعل صدر من العبد صحت إضافته إليه بالمباشرة ، وإلى الله بالاختراع .
وما فسر به العمه يحتمله قوله تعالى : { يعمهون } ، فيكون المعنى : يترددون ويتحيرون ، أو يعمون عن رشدهم ، أو يركبون رؤوسهم ولا يبصرون .
قال بعض المفسرين : وهذا التفسير الأخير أقرب إلى الصواب لأنهم لم يكونوا مترددين في كفرهم ، بل كانوا مصرين عليه ، معتقدين أنه الحق ، وما سواه الباطل .
يعمهون : جملة في موضع الحال ، نصب على الحال ، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل ، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقاً بيمدهم ، ويحتمل أن يكون متعلقاً بيعمهون .
ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم ، قال : لأن العامل لا يعمل في حالين .
وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد ، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحدة ، فإن كانا لذوي حال جاز ، نحو : لقيت زيداً مصعداً منحدراً فأما إذا كانا لذي حال واحد ، كما ذكرناه ، ففي إجازة ذلك خلاف .
ذهب قوم إلى أن لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين ، ولا ظرفي زمان ، ولا ظرفي مكان ، فكذلك لا يقضي حالين .
وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل ، أو معطوفاً ، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة .
قال : بعضهم : إلا أفعل التفضيل ، فإنها تعمل في ظرفي زمان ، وظرفي مكان ، وحالين لذي حال ، فإن ذلك يجوز ، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور .
وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد ، وإلى هذا أذهب ، لأن الفعل الصادر من فاعل ، أو الواقع بمفعول ، يستحيل وقوعه في زمانين ، وفي مكانين .
وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد ، إلا إن كانا ضدين ، أو نقيضين .
فيجوز أن تقول : جاء زيد ضاحكاً راكباً ، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين .
فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد ، والعامل فيهما واحد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.