الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

{ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي يجازيهم جزاء استهزائهم ، فسُمّي الجزاء باسم الابتداء إذ كان مثلهُ في الصورة كقوله { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] فسُمّي جزاء السيئة سيئة .

وقال عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلنّ أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال آخر :

نجازيهمُ كيل الصواع بما أتوا *** ومن يركب ابن العمّ بالظلم يُظلم

فسمّى الجزاء ظلماً .

وقيل : معناه : الله يوبّخهم ويعرضهم ويُخطّيء فعلهم ؛ لأنّ الاستهزاء والسخرية عند العرب العيب والتجهيل ، كما يُقال : إنّ فلاناً يُستهزأ به منذ اليوم ، أي يُعاب . قال الله { إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } [ النساء : 140 ] أي تُعاب ، وقال أخباراً عن نوح عليه السلام : { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] .

وقال الحسن : معناه : الله يُظهر المؤمنين على نفاقهم .

وقال ابن عباس : هو أن الله يُطلع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار ، فيقولون لهم : أتحبّون أن تدخلوا الجنة ، فيقولون : نعم ؛ فيفتح لهم باب من الجنة ، ويُقال لهم : ادخلوا فيسبحون ويتقلبون في النار ، فإذا انتهوا إلى الباب سُدّ عليهم ، وردّوا إلى النار ويضحك المؤمنون منهم ، فذلك قوله : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 29 ] إلى قوله : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 34 ] .

الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤمر بناس من الناس إلى الجنة ، حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعدَّ الله فيها لأهلها من الكرامة ، نودوا : أن اصرفوهم عنها . قال : ويرجعون بحسرة وندامة لم يرجع الخلائق بمثلها . فيقولون : يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا . فيقول الله جل جلاله : هذه الذي أردت بكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلّوني وكنتم تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم ترونني من قلوبكم . فاليوم أُذيقكم من عذابي مع ما حرمتكم من ثوابي " .

وقيل : هو خذلانه إياهم وحرمانهم التوفيق والهداية .

وهو قوله فيما بعد : { وَيَمُدُّهُمْ } يتركهم ، ويمهلهم ويُطيل لهم ، وأصله : الزيادة ، ويُقال : مدّ النهر ، ومدّة : زمن آخر .

وقرأ ابن محيصن وشبل : { وَيُمِدُّهُمْ } بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد ؛ لأنّ المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير . قال الله عزّ وجلّ في المد : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً } [ مريم : 79 ] ، وقال في الإمداد : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ الإسراء : 6 ] وقال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [ المؤمنون : 55 ] ، وقال : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] . { فِي طُغْيَانِهِمْ } كفرهم وضلالتهم وجهالتهم ، وأصل الطغيان : مجاوزة القدر ، يُقال : ميزان فيه طغيان ، أي مجاوزة للقدر في الاستواء . قال الله تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ } [ الحاقة : 11 ] أي جاوز حدّه الذي قدّر له ، وقال لفرعون : { إِنَّهُ طَغَى } [ طه : 24 ] أي أسرف في الدعوى حينما قال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] . { يَعْمَهُونَ } يمضون ، يترددون في الضلالة متحيرين .

يُقال : عمه يعمه عمهاً وعموهاً ، وعمها فهو عمه ، وعامه : إذا كان جائراً عن الحق . قال رؤبة :

ومَهْمَه أَطْرَافُهُ في مَهْمَه *** أعمى الهُدى بالجاهلين العُمَّه