فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

فردّ الله ذلك عليهم بقوله : { الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } أي : ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخفّ بهم ؛ انتصافاً منهم لعباده المؤمنين ، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة .

وقد كانت العرب إذا وضعت لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفاً له في معناه . وورد ذلك في القرآن كثيراً ، ومنه { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] والجزاء لا يكون سيئة . والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق ، ومنه { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] و{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً } [ الطارق : 15 16 ] { يخادعون الله والذين ءامَنُوا } [ البقرة : 9 ] { يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] . وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا يملّ حتى تملوا » وإنما قال { الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } لأنه يفيد التجدّد وقتاً بعد وقت ، وهو : أشدّ عليهم وأنكأ لقلوبهم ، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت ، المستفاد من الجملة الإسمية ، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت ، والمتجددة حيناً بعد حين ، أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ ؛ لأنه يألفه ، ويوطن نفسه عليه . والمدّ : الزيادة . قال يونس بن حبيب : يقال مدّ في الشر ، وأمدّ في الخير ، ومنه { وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ } [ الإسراء : 6 ] { وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ } [ الطور : 22 ] . وقال الأخفش : مددت له إذا تركته ، وأمددته : إذا أعطيته . وقال الفراء واللحياني : مددت فيما كانت زيادته من مثله ، يقال : مدّ النهر ، ومنه { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] وأمددت فيما كانت زيادته من غيره ، ومنه : { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ منَ الملائكة } [ آل عمران : 125 ] والطغيان مجاوزة الحدّ ، والغلوّ في الكفر ، ومنه { إِنَّا لَمَّا طغى الماء } [ الحاقة : 11 ] أي : تجاوز المقدار الذي قدّرته الخُزَّان . وقوله في فرعون : { إِنَّهُ طغى } [ طه : 24 ، 43 ] أي : أسرف في الدعوى حيث قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] . والعمه والعامه : الحائر المتردد ، وذهبت إبله لعمهي : إذا لم يدر أين ذهبت ، والعمه في القلب كالعمى في العين . قال في الكشاف : العمه مثل العمى ، إلا أن العمى في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة انتهى . والمراد : أن الله سبحانه يطيل لهم المدّة ويمهلهم كما قال : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] . قال ابن جرير { فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالاً يجدون إلى المخرج منه سبيلاً ، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً .

/خ15