وقوله : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } الله : رفع بالابتداء ، و " يستهزئ " : جملة فعلية في محلّ رفع خبر ، و " بِهِمْ " متعلّق به ، ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها .
و " يَمُدُّهُمْ " يتركهم ويُمْهِلُهُمْ ، وهو في محلّ رفع أيضاً لعطفه على الخَبَرِ ، وهو " يستهزئ " . و " يَعْمَهُونَ " في مَحَلّ الحال من المفعول في " يَمُدُّهُمْ " ، أو من الضمير في " طغيانهم " ، وجاءت الحال من المُضَاف إليه ؛ لأنَّ المُضَاف مصدر .
و " في طُغْيَانِهِمْ " يحتمل أن يتعلّق ب " يمدهم " ، أو ب " يعمهون " ، وقدّم عليه ، إلاَّ إذا جعل " يعمهون " حالاً من الضَّمير في " طغيانهم " ، فلا يتعلّق به حينئذ ، لفساد المعنى .
وقد منع أبو البَقَاءِ أن يكون " في طغيانهم " ، و " يعمهون " حَالَيْن من الضَّمير في " يمدهم " معللاً ذلك بأن العاملَ الواحدَ لا يعمل في حالين ، وهذا على رأي من منع ذلك .
وأما من يجيز تعدُّد الحال مع عدم تعدُّد صاحبها فيجيز ذلك ، إلاّ أنه في هذه الآية ينبغي أن يمنع من ذلك لا لما ذكره أبو البَقَاءِ ، بل لأن المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجار والمجرور حالاً ؛ إذ المعنى منصب على أنه متعلّق بأحد الفعلين ، أعني : " يمدّهم " ، أو " يعمهون " لا بمحذوف على أنه حال .
والمشهور : فتح " الياء " من " يمدهم " .
وقرئ شاذاً{[6]} : " يُمِدُّهُمْ " بضم الياء .
فقيل : الثلاثي{[7]} والرُّباعي بمعنى واحدٍ تقول : " مدّه " و " أمدّه " بكذا .
وقيل : " مدّه " إذا زاده عن جِنْسِهِ ، و " أمدّه " إذا أراده من غير جِنْسِهِ .
وقيل : مدّه في الشَّرِّ لقوله تعالى : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً } [ مريم : 79 ] ، وأمدّه في الخير لقوله تعالى : { وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ } [ الطور : 22 ] ، { أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ } [ آل عمران : 124 ] إلا أنه يعكر على هذين الفرقين أنه قرئ : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } [ الأعراف : 202 ] باللغتين ، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيه ضم " الياء " أنه بمنزلة قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] ، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 10 ] يعني أبو علي - رحمه الله - بذلك أنه على سبيل التهكُّم .
وقال الزمخشري{[8]} : فإن قلت : لم زعمت أنه من المَدَد دون المَدّ في العُمُر والإمْلاَء والإمْهَال ؟
قلت : كفاك دليلاً على ذلك قراءة ابن كثير ، وابن محيصن{[9]} : " ويمدهم " وقراءة نافع{[10]} : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ } [ الأعراف : 202 ] على أنَّ الذي بمعنى أَمْهَلَ إنما هو مَدّ له ب " اللام " كأملى له .
والاستهزاء لغةً : السخرية واللّعب ؛ يُقَال : هَزِئَ به ، واستهزأ ، قال : [ الرجز ]
قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ *** قالَتْ : أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ مَالَ لَهْ{[11]}
وقيل : أصله الانتقام ؛ وأنشد : [ الطويل ]
قَدِ اسْتَهْزَؤُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ *** سَرَاتُهُمُ وَسْطَ الصَّحَاصِحِ جُثَّمُ{[12]}
فعلى هذا القول الثَّاني نسبة الاستهزاء إليه - تعالى - على ظاهرها .
وأما على القول الأول فلا بد من تأويل وهو من وجوه :
الأول : قيل : المعنى : يجازيهم على استهزائهم فسمى العقوبة باسم الذَّنب ليزدوج الكَلاَم ، ومنه : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ } [ الشورى : 40 ] ،
{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .
وقال : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ، { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ } [ آل : عمران : 54 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : " اللَّهُمَّ إنّ فلاناً هَجَاني ، وهو يعلم أني لَسْتُ بِشَاعِرٍ ، اللّهم فاهْجُهُ ، اللهم فالْعَنْهُ عَدَدَ ما هَجَانِي " {[13]} ؛ وقال عليه الصلاة والسَّلام : " تَكَلَّفُوا من الأَعْمَالِ ما تُطِيقُونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا " {[14]} ؛ وقال عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا{[15]}
وثانيها : أنَّ ضرر استهزائهم بالمُؤْمنين راجعٌ إليهم ، وغير ضَارّ بالمؤمنين ، فيصير كأن الله استهزأ بهم .
وثالثها : أنّ من آثار الاستهزاء حُصُول الهَوَان والحَقَارة ، فذكر الاستهزاء ، والمراد حُصُول الهَوَان لهم فعبّر بالسَّبب عن المُسَبَّب .
ورابعها : أنَّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أَحْكَامِهِ في الدُّنْيا ما لهم عند اللهِ خلافها في الآخرة ، كما أنهم أَظْهَرُوا [ للنَّبي و ]{[16]} المؤمنين أمراً مع أنَّ الحاصل منهم في السر خلافه ، وهذا ضعيف ؛ لأنه - تعالى - لما أظهر لهم أحكام الدُّنيا ، فقد أظهر الأدلّة الواضحة بما يعاملون به في الدَّار الآخرة ، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا .
وخامسها : أن الله - تعالى - يُعَاملهم مُعَاملة المُسْتَهْزِئ في الدُّنيا والآخرة ، أما في الدنيا ، فلأنه أطلع الرسول على أَسْرَارِهِمْ لِمُبَالغتهم في إخْفَائها ، وأمّا في الآخرة فقال ابنُ عَبَّاس : هو أن يفتح لهم باباً من الجنة ، فإذا رأوه المُنافقون خرجوا من الجَحِيمِ متوجّهين إلى الجنة ، فإذا وصلوا إلى باب الجنة ، فهناك يغلق دونهم الباب ، فذلك قوله تعالى : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ }{[17]} [ المطففين : 34 ] وقيل : هو أن يُضْرَبَ للمؤمنين نورٌ يَمْشون به على صراط ، فإذا وصل المنافقون إليه حِيلَ بينهم وبينه ، كما قال تَعَالَى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ }[ الحديد : 13 ] الآية .
فإن قيل : هلا قيل : إن الله يستهزئ بهم ليكون مطابقاً لقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [ البقرة : 14 ] ؟
والجواب : أنَّ " يستهزئ " يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتاً بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } [ التوبة : 126 ] .
و " الطُّغيان " : الضلال مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْياناً وطُغْيَاناً بكسر الطَّاء وضمها . وبكسر الطَّاء قرأ زيد بن علي{[18]} ، ولام " طغى " قيل : ياء . وقيل : واو ، يقال : طَغَيْتُ وطَغَوْتُ ، وأصل المادّة مُجَاوزة الحَدّ ، ومنه : طغى الماء .
و " العَمَهُ " : التردُّد والتحيُّر ، وهو قريب من العَمَى ، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً ، لأن العَمَى يطلق على ذهاب ضوء العين ، وعلى الخطأ في الرأي ، والعَمَهُ لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي ، يقال : عَمِهَ عَمَهاً وَعَمَهَاناً فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ .
قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } [ الأعراف : 202 ] أضاف ذلك الغيّ إلى إخوانهم ، فكيف يكون مضافاً إلى الله .
وثانيهما : أن الله - تعالى - ذمّهم على هذا الطغيان ، فلو كان فعلاً لله - تعالى - فكيف يذمهم عليه ؟
وثالثها : لو كان فعلاً لله - تعالى - لبطلت النبوة ، وبطل القرآن ، فكان الاشتغال بتفسيره عَبَثاً .
ورابعها : أنه - تعالى - أضاف الطّغيان إليهم بقوله : { فِي طُغْيَانِهِمْ } ، ولو كان من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه إنما أضافه إليهم ليعلم أنه - تعالى - غير خالق لذلك ، ومصداقه أنه حين أسند المَدّ إلى الشَّياطين أطلق الغيّ ، ولم يقيده بالإضافة في قوله :
{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } إذا ثبت هذا ، فلا بُدَّ من التأويل ، وهو من وجوه :
أحدها : قال الكَعْبِيّ وأبو مسلم الأصفهاني : إن الله - تعالى - لَمَّا منحهم أَلْطافَهُ التي منحها للمؤمنين ، وخَذَلَهُمْ بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مُظْلِمَةً بتزايد الرَّيْن فيها ، وكتزايد النور في قلوب المؤمنين ، فسمى ذلك النور مدداً ، وأسنده إلى الله تعالى ، لأنه مسبّب عن فعله بهم .
وثانيها : أن يحمل على منع القَسْرِ والإِلْجَاءِ .
وثالثها : أن يسند فعل الشيطان إلى الله - تعالى - لأنه بتمكينه ، وإقْدَاره ، والتَّخلية بينه وبين إغواء عباده .
ورابعها : قال الجُبَّائي : ويمدهم أي يمد عمرهم ، ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون ، وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : ما بَيَّنَا أنه لا يجوز في اللُّغة تفسير " ويمدهم " بالمَدّ في العمر .
الثاني : هَبْ أنه يصحّ ذلك ، ولكنه يفيد أنه - تعالى - يمد عمرهم بغرض أن يكونوا في طُغْيَانهم يعمهون ، وذلك يفيد الإشكال .
أجاب القَاضِي عن ذلك بأنه ليس المُرَاد أنه - تعالى - يمدّ عمرهم بغرض أن يكونوا في الطغيان ، بل المراد أنه - تعالى - يبقيهم ، ويلطف بهم الطَّاعة ، فيأبون إلاَّ أن يعمهوا .