الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

فإن قلت : كيف ابتدىء قوله : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } ولم يعطف على الكلام قبله . قلت : هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة . وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ ، الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء ولا يؤبه له في مقابلته ، لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل . وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله .

فإن قلت : فهلا قيل الله مستهزىء بهم ليكون طبقاً لقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } . قلت : لأن { يَسْتَهْزِىءُ } يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة بهم { أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } [ التوبة : 126 ] وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار ، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قُلْ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } [ التوبة : 64 ] . { وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم } من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره . وكذلك مدّ الداوة وأمدها : زادها ما يصلحها . ومددت السرج والأرض : إذا استصلحتهما بالزيت والسماد . ومده الشيطان في الغي وأمده : إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه ويزداد إنهماكاً فيه .

فإن قلت : لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال ؟ قلت : كفاك دليلاً على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن : «ويمدّهم » ، وقراءة نافع : { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ } [ الأعراف : 202 ] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له .

فإن قلت : فكيف جاز أن يوليهم الله مدداً في الطغيان وهو فعل الشياطين ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } [ الأعراف : 202 ] قلت : إما أن يحمل على أنهم لما منعهم الله ألطافه التي يمنحها المؤمنين ، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه ، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها ، تزايد الإنشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مدداً . وأسند إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم . وإما على منع القسر والإلجاء وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده .

فإن قلت : فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه ؟ قلت : استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين لكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته ، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام . ومن حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز ، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدّي سليماً من القادح ، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل . ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره : في ضلالتهم يتمادون ، وأن هؤلاء من أهل الطبع . والطغيان : الغلو في الكفر ، ومجاوزة الحدّ في العتوّ . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه : { فِي طغيانهم } بالكسر وهما لغتان ، كلقيان ولقيان ، وغنيان وغنيان .

فإن قلت : أي نكتة في إضافته إليهم ؟ قلت : فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم ، وأن الله برىء منه ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين : لو شاء الله ما أشركنا ، ونفياً لو هم من عسى يتوهم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم ليميط الشبه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته . ومصداق ذلك أنه حين أسند المدّ إلى الشياطين ، أطلق الغيّ ولم يقيده بالإضافة في قوله : { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } [ الأعراف : 202 ] . والعمه : مثل العمى ، إلا أن العمى عامّ في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة ، وهو التحير والتردّد ، لا يدري أين يتوجه . ومنه قوله : بالجاهلين العمه ، أي الذين لا رأي لهم ولا دراية بالطرق . وسلك أرضاً عمهاء : لا منار بها .