فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

{ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، صم بكم عمي فهم لا يرجعون } .

{ الله يستهزئ بهم } أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخف بهم انتصافا منهم لعباده المؤمنين ، وجزاء لاستهزائهم بهم ، فسمى الجزاء باسمه ، لأنه في مقابلته ، وورد ذلك في القرآن كثيرا منه { جزاء سيئة سيئة مثلها ، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } والجزاء لا يكون سيئة ، والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق ، ومنه { ومكروا ومكر الله } { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا } { وتعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله لا يمل حتى تملوا ) وإنما قال { الله يستهزئ بهم } لأنه يفيد التجدد وقتا بعد وقت وهو أشد عليهم وأنكى لقلوبهم ، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الإسمية لأنه يألفه ويوطن نفسه عليه ، قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم وردوا إلى النار .

{ ويمدهم } أي يتركهم ويمهلهم ويطيل لهم المدة كما قال : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } والمد الزيادة قال يونس ابن حبيب يقال أمد في الشر وأمد في الخير ، ومنه { وأمددناهم بأموال وبنين ، وأمددناهم بفاكهة } وقال الأخفش مددت له إذا تركته وأمددته إذا أعطيته { في طغيانهم } أي في ضلالهم وأصل الطغيان مجاوزة الحد ومنه { إنا لما طغى الماء } والغلو في الكفر { يعمهون } أي يترددون في الضلالة متحيرين ، والعمه والعامه الحائر المتردد ، والعمه في القلب كالعمى في العين ، قال في الكشاف : العمه مثل العمى إلا أن العمى في البصر والرأي ، والعمي في الرأي خاصة انتهى ، فبينهما عموم وخصوص مطلقا .