معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

قوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } وهم الأنصار تبوؤا الدار توطنوا الدار ، أي : المدينة ، اتخذوها دار الهجرة والإيمان ، { من قبلهم } أي أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين . ونظم الآية : والذين تبوؤا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم ، وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء . { يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة } حزازة وغيظاً وحسداً ، { مما أوتوا } أي مما أعطى المهاجرين دونهم من الفيء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك ، { ويؤثرون على أنفسهم } أي يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم ، { ولو كان بهم خصاصة } فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون ، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الله بن داود عن فضل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء ؟ فقلن ما معناه : إلا الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يضم أو يضيف هذا ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبيان ، فقال : هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك ، إذا أرادوا عشاءً ، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ، ونومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما ، فأنزل الله عز وجل : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحكم بن نافع ، أنبأنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : لا ، فقالوا : تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة ، قالوا : سمعنا وأطعنا .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : " دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ، فإنه سيصيبكم أثرة بعدي " . وروي عن ابن عباس قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فأنزل الله عز وجل :{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " . والشح في كلام العرب : البخل ومنع الفضل . وفرق العلماء بين الشح والبخل . روي أن رجلاً قال لعبد الله بن مسعود : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وأنا رجل شحيح ، لا يكاد يخرج من يدي شيء ، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله عز وجل في القرآن ، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل . وقال ابن عمر : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له . وقال سعيد بن جبير : الشح هو أخذ الحرام ومنع الزكاة . وقيل : الشح هو الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم . قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ، ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله به فقد وقاه شح نفسه .

أخبرنا الإمام محمد بن أبي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو سعيد خلف ابن عبد الرحمن بن أبي نزار ، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حزاز الفهندري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق السعدي ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا القعنبي ، حدثنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن القاسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأنا أبي وشعيب قالا : أنبأنا الليث عن يزيد بن الهادي عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن يزيد عن القعقاع هو ابن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر ، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام وقوي ، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا ، وينمو قليلا قليلا ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان .

الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه .

{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها .

ويدل ذلك على أن المهاجرين ، أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة .

وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها على من سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة ، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا ، والإيثار عكس الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح ، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعا منقادا ، منشرحا بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوبا للنفس ، تدعو إليه ، وتطلع إليه ، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز ، بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته ، فهذان{[1037]}  الصنفان ، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام ، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين{[1038]} .


[1037]:- كذا في ب، وفي أ: فهؤلاء.
[1038]:- كذا في ب، وفي أ: المؤمنين.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

ثم قال تعالى مادحًا للأنصار ، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم ، وإيثارهم مع الحاجة ، فقال : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } . أي : سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم .

قال عمر : وأوصي الخليفة [ من ] {[28553]} بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم كرامتهم . وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو{[28554]} عن مسيئهم . رواه البخاري هاهنا أيضًا{[28555]} .

وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي : مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم ، يُحبّون المهاجرين{[28556]} ويواسونهم بأموالهم .

قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حميد ، عن أنس قال : قال المهاجرون : يا رسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير ، لقد كَفَونا المَؤنة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ! قال : " لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم " {[28557]} .

لم أره في الكتب من هذا الوجه .

وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين ، قالوا : لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : " إما لا فاصبروا حتى تلقوني ، فإنه سيصيبكم [ بعدي ] {[28558]} أثرة " .

تفرد به البخاري من هذا الوجه{[28559]}

قال البخاري : حدثنا الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل . قال : لا . فقالوا : تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة ؟ قالوا : سمعنا وأطعنا . تفرد به دون مسلم{[28560]} .

{ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف ، والتقديم في الذكر والرتبة .

قال : الحسن البصري : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني : الحسد .

{ مِمَّا أُوتُوا } قال قتادة : يعني فيما أعطى إخوانهم . وكذا قال ابن زيد . ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس قال : كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلع رجل من الأنصار تَنظُف{[28561]} لحيته من وضوئه ، قد تَعَلَّق{[28562]} نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى . فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته{[28563]} أيضًا ، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى{[28564]} فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا ، فإن رأيت أن تؤويني {[28565]} إليك حتى تمضي فعلتُ . قال : نعم . قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي{[28566]} فلم يره يقوم من الليل شيئًا ، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه ، ذكر الله وكبر ، حتى يقوم لصلاة الفجر . قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا ، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر{[28567]} ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار{[28568]} يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلعت أنت الثلاث المرار{[28569]} فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير{[28570]} عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت . فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا ، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه . قال عبد الله : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا تطاق{[28571]} .

ورواه النسائي في اليوم والليلة ، عن سُوَيد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن معمر به {[28572]} وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري ، عن رجل ، عن أنس{[28573]} . فالله أعلم .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يعني { مِمَّا أُوتُوا } المهاجرون . قال : وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار ، فعاتبهم الله في ذلك ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال : وقال رسول الله : " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " . فقالوا : أموالنا بيننا قطائع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو غير ذلك ؟ " . قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " هم قوم لا يعرفون العمل ، فتكفونهم وتقاسمونهم{[28574]} الثمر " . فقالوا : نعم يا رسول الله{[28575]}

وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28576]} يعني : حاجة ، أي : يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك .

وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ " . وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } {[28577]} [ الإنسان : 8 ] . وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] .

فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به ، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به ، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه . ومن هذا المقام تصدق الصديق ، رضي الله عنه ، بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " . فقال : أبقيت لهم الله ورسوله . وهذا{[28578]} الماء الذي عُرض{[28579]} على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه ، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر إلى الثلث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم .

وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا فُضيل بن غَزوان ، حدثنا أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هُرَيرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهدُ ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة ، رحمه الله ؟ " . فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . فذهب إلى أهله فقال لامرأته : ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا . فقالت : والله ما عندي إلا قوتُ الصبية . قال : فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة . ففعلَت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لقد عجب الله ، عز وجل - أو : ضحك - من فلان وفلانة " . وأنزل الله عز وجل : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28580]} .

وكذا رواه البخاري في موضع آخر ، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق ، عن فضيل بن غزوان ، به نحوه{[28581]} . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة ، رضي الله عنه .

وقوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح .

قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا داود بن قيس الفراء ، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلّم ، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة ، واتقوا الشُحَّ ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم " .

انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه عن القَعْنَبِيّ ، عن داود بن قيس ، به{[28582]} .

وقال الأعمش وشعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن زهير بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظُّلْم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفُحْش ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ ، وإياكم والشُّحَّ ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا " .

ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة ، والنسائي من طريق الأعمش ، كلاهما عن عمرو بن مُرّة ، به {[28583]} .

وقال الليث ، عن يزيد [ بن الهاد ]{[28584]} عن سُهَيل بن أبي صالح ، عن صفوان بن أبي يزيد ، عن القعقاع بن اللجلاج{[28585]} عن أبي هريرة ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا " {[28586]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا المسعودي ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح ، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا ! فقال عبد الله : ليس ذلك{[28587]} بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا ، ولكن ذلك{[28588]} البخل ، وبئس الشيء البخل " {[28589]}

وقال سفيان الثوري ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي " . لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل " ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، رواه ابن جرير{[28590]}

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا إسماعيل ابن عَيّاش ، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بَريء من الشح مَن أدى الزكاة ، وقَرَى الضيف ، وأعطى في النائبة " {[28591]} .


[28553]:- (1) زيادة من أ.
[28554]:- (1) في م: "وأن يعفى".
[28555]:- (2) صحيح البخاري برقم (4888).
[28556]:- (3) في أ: "يحبون من هاجر إليهم".
[28557]:-(4) المسند (3/200).
[28558]:- (5) زيادة من صحيح البخاري.
[28559]:- (6) صحيح البخاري برقم (3794).
[28560]:- (7) صحيح البخاري برقم (2325).
[28561]:- (8) في م: "ينفض".
[28562]:-(9) في م: "قد علق".
[28563]:- (10) في م:: مثل حاله".
[28564]:-(1) في م: "الأول".
[28565]:- (2) في أ: "أن توريني".
[28566]:- (3) في م: "الليالي الثلاث".
[28567]:-(4) في م، أ: "ولا هجرة".
[28568]:- (5) في م: "مرات".
[28569]:- (6) في م: "المرات".
[28570]:- (7) في م: "كبير".
[28571]:- (8) في م: "لا نطيق"، وفي أ: "لا تطيق".
[28572]:- (9) المسند (3/166) وسنن النسائي الكبرى برقم (10699).
[28573]:- (10) انظر: تحفة الأشراف للمزي (1/395) وكلام الحافظ بن حجر في النكت الظراف بهامشه.
[28574]:- (11) في م: "ويقاسمونكم".
[28575]:- (12) رواه الطبري في تفسيره (28/28).
[28576]:- (13) ذكر في "م" بقية الآية.
[28577]:- (1) في أ: "حبه مسكينًا".
[28578]:- (2) في م: "وهكذا".
[28579]:- (3) في م: "اعرضوه".
[28580]:-(4) صحيح البخاري برقم (4889).
[28581]:- (5) صحيح البخاري برقم (3798) وصحيح مسلم برقم (2054) وسنن الترمذي برقم (3304) وسنن النسائي الكبرى برقم (11582).
[28582]:- (6) المسند (3/323) وصحيح مسلم برقم (2578).
[28583]:- (1) المسند (2/159) وسنن أبي داود برقم (1698) وسنن النسائي الكبرى برقم (11583).
[28584]:-(2) زيادة من م، أ.
[28585]:-(3) في م: "الجلاح".
[28586]:- (4) رواه النسائي في السنن (6/13).
[28587]:- (5) في م: "ليس ذاك".
[28588]:- (6) في م: "ذاك".
[28589]:- (7) رواه الطبري في تفسيره (28/29) من طريق جامع به.
[28590]:- (8) تفسير الطبري (28/29).
[28591]:- (9) تفسير الطبري (28/29) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (10842) من طريق محمد بن إسحاق به، وروي مرسلاً، رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/188) من طريق عمرو بن يحيى وإبراهيم بن إسماعيل، وابن حبان في الثقات (4/202) من طريق ابن المبارك، كلهم عن مجمع ابن يحيى، عن عمه مرسلاً.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .

يقول تعالى ذكره : { وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والإيمَانَ }يقول : اتخذوا المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فابتنوها منازل ، وَالإيمَانَ بالله ورسوله { مِنْ قَبْلِهِمْ }يعني : من قبل المهاجرين ، { يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ } : يحبون من ترك منزله ، وانتقل إليهم من غيرهم ، وعُنِي بذلك الأنصار يحبون المهاجرين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ }قال : الأنصار نعت . قال محمد بن عمرو : سفاطة أنفسهم . وقال الحارث : سخاوة أنفسهم عند ما روى عنهم من ذلك ، وإيثارهم إياهم ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مِنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا } يقول : مما أعطوا إخوانهم هذا الحيّ من الأنصار ، أسلموا في ديارهم ، فابتنوا المساجد والمسجد ، قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأحسن الله عليهم الثناء في ذلك وهاتان الطائفتان الأوّلتان من هذه الآية ، أخذتا بفضلهما ، ومضتا على مَهَلهما ، وأثبت الله حظهما في الفيء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله الله عزّ وجلّ : وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ قال : هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين .

وقوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا } يقول جلّ ثناؤه : ولا يجد الذين تبوّءوا الدار من قبلهم ، وهم الأنصار في صدورهم حاجة ، يعني حسدا مما أوتوا ، يعني مما أوتي المهاجرين من الفيء ، وذلك لما ذُكر لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأوّلين دون الأنصار ، إلا رجلين من الأنصار ، أعطاهما لفقرهما ، وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، أنه حدّث أنّ بني النضير خَلّوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار ، إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سِماك بن خَرَشة ذكرا فقرا ، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُتُوا }المهاجرون . قال ، وتكلم في ذلك يعني أموالَ بني النضير بعضُ من تكلّم من الأنصار ، فعاتبهم الله عزّ وجلّ في ذلك فقال : { وَما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم : «إنّ إخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الأمْوَالَ والأولاد وَخَرَجُوا إلَيْكُمْ » فقالوا : أموالنا بينهم قطائع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أوَ غَيْرَ ذَلِكَ ؟ » قالوا : وما ذلك يا رسول الله ؟ قال : «هُمْ قَوْمٌ لا يَعْرِفُونَ العَمَلَ فَتَكْفُونهُمْ وَتُقاسِمُونَهُمْ الثّمَرَ » ، فقالوا : نعم يا رسول الله .

وبنحو الذي قلنا في قوله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أوتُوا }قال : الحسد .

قال : ثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن حاجَةً فِي صُدُورِهِمْ قال : حسدا في صدورهم .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أبو رجاء عن الحسن ، مثله .

وقوله : { وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ }يقول تعالى ذكر : وهو يصف الأنصار الذين تبوّءُوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين ، { وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهمْ }يقول : ويعطون المهاجرين أموالهم إيثارا لهم بها على أنفسهم ، { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }يقول : ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم . والخَصاصة مصدر ، وهي أيضا اسم ، وهو كلّ ما تخلّلته ببصرك كالكوّة والفرجة في الحائط ، تجمع خَصاصات وخِصاص ، كمال قال الراجز :

*** قَدْ عَلِمَ المَقاتِلاتُ هَجّا ***

*** والنّاظراتُ مِنْ خَصَاصٍ لَمْجا ***

*** لأَوْرِيَنْها دُلَجا أوْ مُنْجَا ***

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليضيفه ، فلم يكن عنده ما يضيفه ، فقال : «ألا رجلٌ يضيفُ هذا رَحِمَهُ اللّهُ ؟ » فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نوّمي الصبية ، وأطفئي المصباح وأريه بأنك تأكلين معه واتركيه لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت فنزلت : { وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن فضيل ، عن غزوان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف ، فلم يكن عند إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نَوّمي الصّبْية وأطفئي المصباح ، وقرّبي للضيف ما عندك ، قال : فنزلت هذه الآية وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ .

يقول تعالى ذكره : من وقاه الله شحّ نفسه فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ المخلّدُونَ في الجنة . والشحّ في كلام العرب : البخل ، ومنع الفضل من المال ومنه قول عمرو بن كلثوم :

تَرَى اللّحِزَ الشّحيحَ إذَا أُمِرّتْ *** عَلَيْهِ لِمَالِهِ فِيها مُهينا

يعني بالشحيح : البخيل ، يقال : إنه لشحيح بين الشحّ والشحّ ، وفيه شحة شديدة وشحاحة . وأما العلماء فإنهم يرون أن الشحّ في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حقّ .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا المسعودي ، عن أشعث ، عن أبي الشعثاء ، عن أبيه ، قال : أتى رجل ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء ، قال : ليس ذاك بالشحّ الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلما ، ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل .

حدثني يحيى بن إبراهيم ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن جامع ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود ، فقال يا أبا عبد الرحمن ، إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية : { وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ }والله ما أعطي شيئا أستطيع منعه ، قال : ليس ذلك بالشحّ ، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك بغير حقه ، ولكن ذلك البخل .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جُبَير ، عن أبي الهياج الأسدي ، قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلاً يقول : اللهمّ قني شحّ نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق ، ولم أزن ، ولم أفعل شيئا ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف .

حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، قال : حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية الأنصاري ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «بَرِىءَ مِنَ الشّحّ مَنْ أدّى الزّكاةَ ، وَقَرَى الضّيْفَ ، وأعْطَى في النّائِبَةِ » .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا زياد بن يونس أبو سلامة ، عن نافع بن عمر المكي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن عمر ، قال : إن نجوت من ثلاث طمعت أن أنجو . قال عبد الله بن صفوان ما هنّ أنبيك فيهنّ ، قال : أخرج المال العظيم ، فأخرجه ضرارا ، ثم أقول : أقرض ربي هذه الليلة ، ثم تعود نفسي فيه حتى أعيده من حيث أخرجته ، وإن نجوت من شأن عثمان ، قال ابن صفوان : أما عثمان فقُتل يوم قُتل ، وأنت تحبّ قتله وترضاه ، فأنت ممن قتله وأما أنت فرجل لم يقك الله شحّ نفسك ، قال : صدقت .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ : { وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ }قال : من وقى شحّ نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئا ، ولم يقربه ، ولم يدعه الشحّ أن يحبس من الحلال شيئا ، فهو من المفلحين ، كما قال الله عزّ وجلّ .

وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ }قال : من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عزّ وجلّ عنه ، ولم يدعه الشحّ على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به ، فقد وقاه الله شحّ نفسه ، فهو من المفلحين .