سورة الحج مدنية إلا ( ومن الناس من يعبد الله ) الآيتين أو ( إلا هذان خصمان ) الست آيات فمدنيات وهي أربع أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان وسبعون آية .
قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم } أي : احذروا عقابه بطاعته { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } والزلزلة والزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة ، واختلفوا في هذه الزلزلة : فقال علقمة والشعبي : هي من أشراط الساعة . وقيل : قيام الساعة . وقال الحسن و السدي : هذه الزلزلة تكون يوم القيامة . وقال ابن عباس : زلزلة الساعة قيامها فتكون معها .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
يخاطب الله الناس كافة ، بأن يتقوا ربهم ، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فحقيق بهم أن يتقوه ، بترك الشرك والفسوق والعصيان ، ويمتثلوا أوامره ، مهما استطاعوا .
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى ، ويحذرهم من تركها ، وهو الإخبار بأهوال القيامة ، فقال :
{ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } لا يقدر قدره ، ولا يبلغ كنهه ، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة ، رجفت الأرض وارتجت ، وزلزلت زلزالها ، وتصدعت الجبال ، واندكت ، وكانت كثيبا مهيلا ، ثم كانت هباء منبثا ، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج .
فهناك تنفطر السماء ، وتكور الشمس والقمر ، وتنتثر النجوم ، ويكون من القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب ، وتجل منه الأفئدة ، وتشيب منه الولدان ، وتذوب له الصم الصلاب ، ولهذا قال : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } .
تعريف بالحج هذه السورة مشتركة بين مكية ومدنية كما يبدو من دلالة آياتها . وعلى الأخص آيات الأذن بالقتال . وآيات العقاب بالمثل ، فهي مدنية قطعا . فالمسلمون لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة . وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة . أما قبل ذلك فقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حين بايعه أهل يثرب ، وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم " إني لم أومر بهذا " . حتى إذا صارت المدينة دار إسلام شرع الله القتال لرد أذى المشركين عن المسلمين والدفاع عن حرية العقيدة ، وحرية العبادة للمؤمنين .
والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية ، وجو السور المكية . فموضوعات التوحيد والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك . ومشاهد القيامة ، وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون . . بارزة في السورة وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال ، وحماية الشعائر ، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان ، والأمر بالجهاد في سبيل الله .
والظلال الواضحة في جو السورة كلها هي ظلال القوة والشدة والعنف والرهبة . والتحذير والترهيب واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والاستسلام .
تبدو هذه الظلال في المشاهد والأمثال . .
فمشهد البعث مزلزل عنيف رهيب : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) . .
وكذلك مشهد العذاب : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ، ولهم مقامع من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها ، وذوقوا عذاب الحريق ) . .
ومثل الذي يشرك بالله : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) . .
وحركة من ييأس من نصر الله : ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع ، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) . .
ومشهد القرى المدمرة بظلمها : ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة ، فهي خاوية على عروشها ، وبئر معطلة وقصر مشيد ) . .
تجتمع هذه المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف ، وتبرير الدفع بالقوة ، وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين . إلى عرض الحديث عن قوة الله وضعف الشركاء المزعومين . .
ففي الأولى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا . ولينصرن الله من ينصره . إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور ) . .
وفي الثانية : ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له . إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب . ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ) . .
ووراء هذا وذلك ، الدعوة إلى التقوى والوجل واستجاشة مشاعر الرهبة والاستسلام .
تبدأ بها السورة وتتناثر في ثناياها : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) . . ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) . . ( فإلهكم إله واحد ، فله أسلموا وبشر المخبتين . الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) . . ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) . .
ذلك إلى استعراض مشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، ومصارع الغابرين . والأمثلة والعبر والصور والتأملات لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام . . وهذا هو الظل الشائع في جو السورة كلها ، والذي يطبعها ويميزها .
ويجري سياق السورة في أربعة أشواط :
يبدأ الشوط الأول بالنداء العام . نداء الناس جميعا إلى تقوى الله ، وتخويفهم من زلزلة الساعة ، ووصف الهول المصاحب لها ، وهو هول عنيف مرهوب . ويعقب في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في الله بغير علم ، واتباع كل شيطان محتوم على من يتبعه الضلال . ثم يعرض دلائل البعث من أطوار الحياة في جنين الإنسان ، وحياة النبات ؛ مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة ، ويربط بين تلك الأطوار المطردة الثابتة وبين أن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور . . وكلها سنن مطردة وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود . . ثم يعود إلى استنكار الجدل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير بعد هذه الدلائل المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود . وإلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح والخسارة ، والانحراف عن الاتجاه إلى الله عند وقوع الضراء ، والالتجاء إلى غير حماه ؛ واليأس من نصرة الله وعقباه . وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد الله ، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب . . وهنا يعرض ذلك المشهد العنيف من مشاهد العذاب للكافرين ، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين .
ويتصل الشوط الثاني بنهاية الشوط الأول بالحديث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام . ويستنكر هذا الصد عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعا . يستوي في ذلك المقيمون به والطارئون عليه . . وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت ، وتكليف إبراهيم - عليه السلام - أن يقيمه على التوحيد ، وأن يطهره من رجس الشرك . ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب ، وهي الهدف المقصود . وينتهي هذا الشوط بالإذن للمؤمنين بالقتال لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا : ربنا الله !
والشوط الثالث يتضمن عرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل ، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى المدمرة على الظالمين . وذلك لبيان سنة الله في الدعوات ، وتسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما يلقاه من صد وإعراض ، وتطمين المسلمين ، بالعاقبة التي لا بد أن تكون . كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم ، وتثبيت الله لدعوته ، وإحكامه لآياته ، حتى يستيقن بها المؤمنون ، ويفتن بها الضعاف والمستكبرون !
أما الشوط الأخير فيتضمن وعد الله بنصرة من يقع عليه البغي وهو يدفع عنه العدوان ويتبع هذا الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون ، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الآلهة التي يركن إليها المشركون . . وينتهي الشوط وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا ليعبدوا ربهم ، ويجاهدوا في الله حق جهاده ، ويعتصموا بالله وحده ، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام إبراهيم الخليل . .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم ، إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ؛ وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ) . .
مطلع عنيف رعيب ، ومشهد ترتجف لهوله القلوب . يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعا : ( يا أيها الناس )يدعوهم إلى الخوف من الله : ( اتقوا ربكم )ويخوفهم ذلك اليوم العصيب : ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) .
وهكذا يبدأ بالتهويل المجمل ، وبالتجهيل الذي يلقي ظل الهول يقصر عن تعريفه التعبير ، فيقال : إنه زلزلة . وإن الزلزلة ( شيء عظيم ) ، من غير تحديد ولا تعريف .
هذه السورة مكية سوى ثلاث آيات قوله ' هذان خصمان{[1]} ' إلى تمام ثلاث آيات . قاله ابن عباس ومجاهد وروي أيضا عن ابن عباس أنهن أربع آيات إلى قوله ' عذاب الحريق ' وقال الضحاك هي مدنية وقال قتادة سورة الحج مدنية إلا أربع آيات من قوله ' وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته{[2]} ' إلى قوله ' عذاب يوم عقيم ' فهن مكيات وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات وقال الجمهور مختلطة فيها مكي ومدني وهذا هو الأصح والله أعلم لأن الآيات تقتضي ذلك{[3]} وروي عن أنس بن مالك أنه قال نزل أول السورة في السفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بها فاجتمع الناس إليه فقال أتدرون أي يوم هذا فبهتوا فقال يوم يقول الله يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فاغتم الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل الحديث . {[4]}
صدر الآية تحذير بجميع العالم ثم أوجب الخبر وأكده بأمر { زلزلة } القيامة وهي إحدى شرائطها وسماها «شيئاً » إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها فيستسهل لذلك أن تسمى شيئاً .
وهي معدومة إذا اليقين بها يشبهها بالموجودات وأما على المآل أي هي أذا وقعت شيء عظيم فكأنه لم يطلق الاسم الآن بل المعنى أنها كانت فهي حينئذ شيء عظيم ، والزلزلة التحريك العنيف{[8291]} وذلك مع نفخة الفزع ومع نفحة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة{[8292]} من ثلاث نفخات ومن لفظ الزلزلة قول الشاعر : [ الخفيف ]
يعرف الجاهل المضلل أن . . . الدهر فيه النكراء والزلزال{[8293]}
فيحتمل أن تكون «الزلزلة » في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة كما قال تعالى { مستهم البأساء والضراء وزلزوا }{[8294]} [ البقرة : 214 ] وكما قال عليه السلام «اللهم اهزمهم وزلزلهم »{[8295]} ، والجمهور على أن { زلزلة الساعة } هي كالمعهودة في الدنيا إلا أنها في غاية الشدة ، واختلف المفسرون في «الزلزلة » المذكورة هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة ، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم ؟ فقال الجمهور هي في الدنيا .