قوله تعالى : { وما كان لنبي أن يغل } . الآية ، قال عكرمة ومقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما إن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء ، فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في غنائم أحد ، حين ترك الرماة المركز للغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر ، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ قالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه . وقيل إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم ، فأنزل لله تعالى ( وما كان لنبي أن يغل ) فيعطي قوماً ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية ، وقال محمد بن إسحاق هذا في الوحي ، يقول : ما كان لنبي أن يكتم شيئاً من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة . قوله تعالى ( وما كان لنبي أن يغل ) ، وقرأ ابن كثير وأهل البصرة وعاصم ( يغل ) بفتح الياء وضم العين ، معناه : أن يخون والمراد منه الأمة ، وقيل : اللام فيه منقولة ، معناه : ما كان النبي ليغل ، وقيل معناه : ما كان يظن به ذلك ولا يليق به ، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الغين ، وله وجهان : أحدهما ، أن يكون من الغلول أيضاً أي ما كان لنبي أن يخان ، يعني أن تخونه أمته ، والوجه الآخر أن يكون من الإغلال ، معناه ما كان لنبي أن يغل ، أن يخون ، أي ينسب إلى الخيانة .
قوله تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } . قال الكلبي : يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له : انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع في النار ، ثم يكلف أن ينزل إليه فيخرجه ففعل ذلك به . أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث مولى ابن مطيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهباً ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع ، قال : فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى ، وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أسود يقال له مدعم ، قال : فخرجنا حتى إذا كنا بوادي القرى فبينما مدعم يحط رحلا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فجأة فأصابه فقتله ، فقال الناس : هنيئاً له الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم ، تشتعل ناراً ، فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شراك من نار أو شراكان من نار .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أخبرنا إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى ابن حيان ، عن أبي عمرة الأنصاري ، عن زيد بن خالد الجهني ، قال : إن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صلوا على صاحبكم ، فتغيرت وجوه الناس لذلك ، فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :إن صاحبكم قد غل في سبيل الله ، قال : ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب المروزي ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال :هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال : ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ؟ فهلا جلس في بيت أمه أو في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ فو الذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها تبعر ، ثم رفع يده حتى رأينا عفرة إبطيه ، ثم قال : اللهم هل بلغت ثلاثا .
وروى قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال : لا تصيبن شيئاً إلا بإذني فإنه غلول ، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة .
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه .
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال وضربوه .
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
الغلول هو : الكتمان من الغنيمة ، [ والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان ]{[171]} وهو محرم إجماعا ، بل هو من الكبائر ، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص ، فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل ، لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب . وقد صان الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم ، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقا ، وأطهرهم نفوسا ، وأزكاهم وأطيبهم ، ونزههم عن كل عيب ، وجعلهم محل رسالته ، ومعدن حكمته { الله أعلم حيث يجعل رسالته } .
فبمجرد علم العبد بالواحد منهم ، يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم ، ولا يحتاج إلى دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم ، لأن معرفته بنبوتهم ، مستلزم لدفع ذلك ، ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم ، فقال : { وما كان لنبي أن يغل } أي : يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته .
ثم ذكر الوعيد على من غل ، فقال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي : يأت به حامله على ظهره ، حيوانا كان أو متاعا ، أو غير ذلك ، ليعذب به يوم القيامة ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت } الغال وغيره ، كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه ، { وهم لا يظلمون } أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم ، وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة .
لما ذكر عقوبة الغال ، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله ، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه ، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره .
ثم يعود إلى الحديث عن النبوة وخصائصها الخلقية ؛ ليمد من هذا المحور خيوطا في التوجيه للأمانة ، والنهي عن الغلول ، والتذكير بالحساب ، وتوفية النفوس دون إجحاف :
( وما كان لنبي أن يغل . ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
ولقد كان من بين العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل ، خوفهم ألا يقسم لهم رسول الله [ ص ] من الغنائم ! كذلك كان بعض المنافقين قد تكلموا بأن بعض غنائم بدر من قبل قد اختفت ؛ ولم يستحوا أن يهمسوا باسمه [ ص ] في هذا المجال .
فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا . . أي أن يحتجزوا شيئا من الأموال والغنائم أو يقسموا لبعض الجند دون بعض ، أو يخونوا إجمالا في شيء :
ما كان له . فهو ليس من شأنه أصلا ولا من طبعه ولا من خلقه . فالنفي هنا نفي لإمكان وقوع الفعل . وليس نفيا لحله أو جوازه . فطبيعة النبي الأمينة العادلة العفيفة لا يتأتى أن يقع منها الغلول ابتداء . . وفي قراءة : " يغل " على بناء الفعل لغير الفاعل . أي لا يجوز أن يخان . ولا أن يخفي عنه أتباعه شيئا . . فيكون نهيا عن خيانة النبي في شيء . وهو يتمشى مع عجز الآية . وهي قراءة الحسن البصري .
ثم يهدد الذين يغلون ، ويخفون شيئا من المال العام أو من الغنائم ، ذلك التهديد المخيف :
( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
روى الإمام أحمد . حدثنا سفيان عن الزهري ، سمع عروة يقول : حدثنا أبو حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله [ ص ] رجلا من الأزد يقال له ابن اللتيبة . على الصدقة . فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي إلي . فقام رسول الله [ ص ] على المنبر فقال : " ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي . أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده ، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته ، وإن بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر " . . ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه . ثم قال : " اللهم هل بلغت ؟ " - ثلاثا - . . [ وأخرجه الشيخان ] وروى الإمام أحمد بإسناده ، عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله [ ص ] يوما فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره . ثم قال : " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت . فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك " . . [ وأخرجه الشيخان من حديث أبي حيان ] . .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميرة الكندي . قال : قال رسول الله [ ص ] :
" يا أيها الناس . من عمل لنا منكم عملا ، فكتمنا منه مخيطا فما فوقه ، فهو غل يأتي به يوم القيامة " . . قال : فقام رجل من الأنصار أسود - قال مجاهد : هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه - فقال : يا رسول الله ، أقبل مني عملك . قال : " وما ذاك ؟ " قال : سمعتك تقول : كذاوكذا . قال : " وأنا أقول ذلك الآن . من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره . فما أوتي منه أخذه ؛ وما نهي عنه انتهى " . . [ ورواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي رافع ] . .
وقد عملت هذه الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة ؛ حتى أتت بالعجب العجاب ؛ وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره ، كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية . وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة ، لا يراه أحد ، فيأتي به إلى أميره ، لا تحدثه نفسه بشيء منه ، خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب ، وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة ! فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلا . وكانت الآخرة في حسه واقعا ، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه ، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها . وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه . فالآخرة كانت حقيقة يعيشها ، لا وعدا بعيدا ! وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت ، وهم لا يظلمون . .
روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال : لما هبط المسلمون المدائن ، وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق معه ، فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه . فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : أما والله لولا الله ما آتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأنا . فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ، ولا غيركم ليقرظوني ! ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه . فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس . .
وقد حملت الغنائم إلى عمر - رضي الله عنه - بعد القادسية ، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن . . فنظر - رضي الله عنه - إلى ما أداه الجند في غبطة وقال : " إن قوما أدوا هذا لأميرهم لأمناء " . .
وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير .
تقدم القول في صيغة : وما كان لكذا أن يكون كذا ، في قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت } [ آل عمران : 145 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء ، وقرأ باقي السبعة «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء ، واللفظة : بمعنى الخيانة في خفاء ، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح ، قال أبو عمرو : تقول العرب : أغل الرجل يغل إغلالاً : إذا خان ، ولم يؤد الأمانة ، ومنه قول النمر بن تولب{[3670]} : [ الطويل ]
جزى اللَّهُ عنّي جَمْرَة َ ابْنَةَ نَوْفَلٍ . . . جزاءَ مُغِلًّ بالأمانةِ كاذبِ
وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان ، قال أبو علي : وتقول من الغل الذي هو الضغن : غل يغِل بكسر الغين ، ويقولون في الغلول من الغنيمة ، غل يغُل بضم الغين ، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء }{[3671]} { وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك }{[3672]} { وما كان لنفس أن تموت }{[3673]} { وما كان الله ليضل قوماً بعد أن هداهم }{[3674]} { وما كان الله ليطلعكم على الغيب }{[3675]} ولا يكاد يجيء : ما كان زيد ليضرب ، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به ، وفي هذا الاحتجاج نظر ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغُل » بضم الغين ، فقيل له : إن ابن مسعود قرأ «يغَل » بفتح الغين ، فقال ابن عباس : بلى والله ويقتل ، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالاً على هذه القراءة - التي هي بفتح الياء وضم الغين ، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم : نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية{[3676]} .
قال القاضي أبو محمد : قيل : كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجاً ، وقيل كانت من منافقين ، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً ، قال النقاش : ويقال : إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد : الغنيمة الغنيمة أيها الناس ، إنما نخشى أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : خشيتم أن نغل{[3677]} ؟ ونزلت هذه الآية ، وقال الضحاك : بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم ، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ، فأنزل الله تعالى عليه عتاباً ، { وما كان لنبي أن يغل } أي يقسم لبعض ويترك بعضاً{[3678]} ، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس ، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم ، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به : اقسم علينا غنائمنا يا محمد ، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه{[3679]} ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال ابن إسحاق : الآية إنما نزلت إعلاماً بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئاً ما أمر بتبليغه .
قال القاضي : وكأن الآية على هذا في قصة - أحد - لما نزل عليه : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه ، وبالجملة فهو تأويل ضعيف ، وكان يجب أن يكون «يُغِل » بضم الياء وكسر الغين ، لأنه من الإغلال في الأمانة ، وأما قراءة من قرأ «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، فمعناها عند جمهور من أهل العلم : أن ليس لأحد أن يغله : أي يخونه في الغنيمة ، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه ، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره ، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلهم حظهم من التوقير ، وقال بعض الناس : معنى «أن يغل » أن يوجد غالاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً ، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وقال أبو علي الفارس : معنى «يُغَل » بضم الياء وفتح الغين يقال له : غللت وينسب إلى ذلك ، كما تقول أسقيته ، إذا قلت : سقاك الله كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]
وَأُسْقيهِ حتى كاد مِمّا أَبُثُّهُ . . . تُكَلِّمُني أحْجَارُه وَمَلاعِبُهْ{[3680]}
وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام ، ونحوه في الكلام : أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا آكل سمناً حتى يحياً الناس من أول ما يحيون{[3681]} : أي يدخلون في الحيا{[3682]} وقوله تعالى : { ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة } وعيد لمن يغل من الغنيمة ، أو في زكاته ، فيجحدها ويمسكها ، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : «ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك{[3683]} ، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء ، وفرس له حمحمة »
وروى نحو هذا الحديث ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، الحديث بطوله{[3684]} ، وروى نحوه أبو حميد الساعدي{[3685]} وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس{[3686]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أدوا الخياط والمخيط »{[3687]} ، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم :< شراك أو شراكان من نار>{[3688]} ، وقال في مدعم{[3689]} ، < إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً > .
قال القاضي : وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام{[3690]} ، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ، ألا ترى إلى قول الحادرة{[3691]} : [ الكامل ]
أسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ . . . رفع اللِّواء لَنَا بِهَا في الْمَجمَعِ
وكانت العرب ترفع للغادر لواء ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته ، وقد تقدم القول في نظير ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }{[3692]} .