قوله تعالى : { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } ، يعني نفسه .
قوله تعالى : { لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء } ، يعني في الأرض .
قوله تعالى : { من بعد قوم نوح } ، أي : من بعد إهلاكهم .
قوله تعالى : { وزادكم في الخلق بصطة } ، أي : طولاً وقوة . قال الكلبي والسدي : كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع ، وقامة القصير ستون ذراعاً ، وقال أبو حمزة الثمالي : سبعون ذراعاً ، وقال مقاتل : كان طول كل رجل اثني عشر ذراعا ، وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة ، كان عين الرجل يفرخ فيها الضباع ، وكذلك مناخرهم .
قوله تعالى : { فاذكروا آلاء الله } ، نعم الله ، واحدها ألى وإلى ، مثل معىً وأمعاء ، وقفا وأقفاء ، ونظيرها : { آناء الليل } ، واحدها أنى وإنى .
{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ } أي : كيف تعجبون من أمر لا يتعجب منه ، وهو أن اللّه أرسل إليكم رجلا منكم تعرفون أمره ، يذكركم بما فيه مصالحكم ، ويحثكم على ما فيه النفع لكم ، فتعجبتم من ذلك تعجب المنكرين .
{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي : واحمدوا ربكم واشكروه ، إذ مكن لكم في الأرض ، وجعلكم تخلفون الأمم الهالكة الذين كذبوا الرسل ، فأهلكهم اللّه وأبقاكم ، لينظر كيف تعملون ، واحذروا أن تقيموا على التكذيب كما أقاموا ، فيصيبكم ما أصابهم ، { و } اذكروا نعمة اللّه عليكم التي خصكم بها ، وهي أن { زَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } في القوة وكبر الأجسام ، وشدة البطش ، { فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ } أي : نعمه الواسعة ، وأياديه المتكررة { لَعَلَّكُمْ } إذا ذكرتموها بشكرها وأداء حقها { تُفْلِحُونَ } أي : تفوزون بالمطلوب ، وتنجون من المرهوب ، فوعظهم وذكرهم ، وأمرهم بالتوحيد ، وذكر لهم وصف نفسه ، وأنه ناصح أمين ، وحذرهم أن يأخذهم اللّه كما أخذ من قبلهم ، وذكرهم نعم اللّه عليهم وإدرار الأرزاق إليهم ، فلم ينقادوا ولا استجابوا .
ولا بد أن يكون القوم قد عجبوا - كما عجب قوم نوح من قبل - من هذا الاختيار ، ومن تلك الرسالة ، فإذا هود يكرر لهم ما قاله نوح من قبل ، كأنما كلاهما روح واحدة في شخصين :
( أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ؟ ) . .
ثم يزيد عليه ما يمليه واقعهم . . واقع استخلافهم في الأرض من بعد قوم نوح ، وإعطائهم قوة في الأجسام وضخامة بحكم نشأتهم الجبلية ، وإعطائهم كذلك السلطان والسيطرة :
( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ، وزادكم في الخلق بسطة . فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ) . . فلقد كان من حق هذا الاستخلاف ، وهذه القوة والبسطة ، أن تستوجب شكر النعمة ، والحذر من البطر ، واتقاء مصير الغابرين . وهم لم يأخذوا على الله عهداً : أن تتوقف سنته التي لا تتبدل ، والتي تجري وفق الناموس المرسوم ، بقدر معلوم . وذكر النعم يوحي بشكرها ؛ وشكر النعمة تتبعه المحافظة على أسبابها ؛ ومن ثم يكون الفلاح في الدنيا والآخرة .
قد تقدم القول في مثل { أو عجبتم } و «الذكر » لفظ عام للمواعظ والأوامر والنواهي ، وقوله تعالى : { اذكروا } الآية ، تعديد للنعم عليهم ، و { خلفاء } جمع خليف كظريف وظرفاء ، وخليفة جمع خلائف ، والعرب تقول خليفة وخليف ، وأنشد أبو علي :
فإن يزل زائل يوجد خليفته*** وما خليف أبي وهب بموجود
قال السدي وابن إسحاق : والمعنى جعلكم سكان الأرض بعد قوم نوح ، وقوله : { وزادكم في الخلق بصطة } أي في الخلقة ، والبصطة الكمال في الطول والعرض ، وقيل زادكم على أهل عصركم ، قال الطبري : المعنى زادكم على قوم نوح وقاله قتادة .
قال القاضي أبو محمد : واللفظ يقتضي أن الزيادة هي على جميع العالم ، وهو الذي يقتضي ما يذكر عنهم ، وروي أن طول الرجل منهم كان مائة ذراع وطول أقصرهم ستون ونحو هذا . و «الآلاء » : جمع «إلا » على مثال معي ، وأنشد الزجّاج : [ للأعشى ]
أبيض لا يرهب الهزال ولا*** يقطع رحماً ولا يخون إلى
وقيل واحد الآلاء «ألا » على مثال قفى وقيل واحدها «إلى » على مثال حسى وهي النعمة والمنة ، و { تفلحون } : معناه تدركون البغية والآمال ، قاله الطبري وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إسحاق من ولد عاد بن إرم ابن عوص بن سام بن نوح ، وكانت مساكنهم الشحر من أرض اليمن وما والى حضرموت إلى عمان ، وقال السدي وكانوا بالأحقاف وهي الرمال ، وكانت بلادهم أخصب بلاد فردها الله صحارى ، وقال علي بن أبي طالب : إن قبر هود عليه السلام هنالك في كثيب أحمر يخالطه مدرة ذات أراك وسدر ، وكانوا قد فشوا في جميع الأرض وملكوا كثيراً بقوتهم وعددهم وظلموا الناس ، وكانوا ثلاث عشرة قبيلة ، وكانوا أصحاب أوثان منها ما يسمى صداء ومنها صمودا ومنها الهبا فبعث الله إليهم هوداً من أفضلهم وأوسطهم نسباً فدعاهم إلى توحيد الله وإلى ترك الظلم .
قال ابن إسحاق : لم يأمرهم فيما يذكر بغير ذلك فكذبوه وعتوا واستمر ذلك منهم إلى أن أراد الله إنفاذ أمره أمسك عنهم المطر ثلاث سنين ، فشقوا بذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا أهمهم أمر فزعوا إلى المسجد الحرام بمكة فدعوا الله فيه تعظيماً له مؤمنهم وكافرهم ، وأهل مكة يومئذ العماليق وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بكر ، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وفداً إلى مكة يستسقون الله لهم ، فبعثوا قيل بن عير ولقيم بن هزال وعثيل بن ضد بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد بن عفير ، وكان هذا مؤمناً يكتم إيمانه وُجْلُهمة بن الخبيري في سبعين رجلاً من قومهم ، فلما قدموا مكة نزلواعلى معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم فأنزلهم وأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية ، ولما رأى معاوية إقامتهم وقد بعثهم عاد للغوث أشفق على عاد وكان ابن أختهم كلهدة بن الخبيرى أخت جلهمة ، وقال هلك أخوالي وشق عليه أن يأمر أضيافه بالانصراف عنه فشكا ذلك إلى قينة فقالت له اصنع شعراً نغني به عسى أن ننبههم فقال : [ الوافر ]
ألا يا قيل ويحك قم َفَهْيِنمْ*** لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عاداً*** قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو*** به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير*** فقد أمست نساؤهم عياما
وإن الوحش تأتيهم جهاراً*** ولا تخشى لعاديَّ سهاما
وأنتمْ ها هنا فيما اشتهيتم*** نهارَكمُ وليلكمُ التماما
فَقُبِّحَ وفدُكمْ من وفدِ قَوْمٍ*** ولا لُقُّوا التحيَّةَ والسَّلاما
فغنت به الجرادتان فلما سمعه القوم قال بعضهم يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حل بهم فادخلوا هذا الحرم وادعوا لعل الله يغيثهم فخرجوا لذلك فقال لهم مرثد بن سعد : إنكم والله ما تسقون بدعائكم ، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم به سقيتم ، وأظهر إيمانه يؤمئذ فخالفه الوفد ، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر : احبسا عنا مرثداً ولا يدخل معنا الحرم ، فإنه قد اتبع هوداً ومضوا إلى مكة فاستسقى قيل بن عير ، وقال : يا إلهنا إن كان هود صالحاً فاسقنا فإنّا قد هلكنا ، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً بيضاء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحاب :يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ، فقال قيل : قد اخترت السوداء فانها أكثرها ماء ، فنودي : اخترت رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً ، لا والداً ولا ولداً ، إلا جعلتهم همداً ، وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث ، فلما رأوها قالوا هذا عارض ممطرنا ، حتى عرفت أنها ريح امرأة من عاد يقال لها مهد ، فصاحت وصعقت فلما أفاقت قيل لها ما رأيت ؟ قالت رأيت ريحاً كشهب النار أمامها رجال يقودونها ، فسخرها الله عليهم ثمانية أيام حسوماً وسبع ليال ، والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك ، فاعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه من الريح إلا ما يلتذ به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قصص وقع في تفسير مطولاً ، وفيه اختلاف فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز وفي خبرهم أن الريح كانت تدمغهم بالحجارة وترفع الظعينة عليها المرأة ، حتى تلقيها في البحر ، وفي خبرهم أن أقوياءهم كان أحدهم يسد بنفسه مهب الريح حتى تغلبه فتلقيه في البحر ، فيقوم آخر مكانه حتى هلك الجميع ، وقال زيد بن أسلم : بلغني أن ضبعاً ربت أولادها في حجاج عين رجل منهم وفي خبرهم ، أن الله بعث لما هلكت عاد طيراً وقيل أسداً فنقلت جيفهم حتى طرحتها في البحر ، فذلك قوله { فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم } في بعض ما روي من شأنهم : أن الريح لم تبعث قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها تمت على الخزنة فغلبتهم فذلك قوله : { أهلكوا بريح صرصر عاتية } وروي أن هوداً لما هلكت عاد نزل بمن آمن معه إلى مكة فكانوا بها حتى ماتوا ، فالله علم أي ذلك كان .