{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني بني النضير ، { من ديارهم } التي كانت بيثرب ، قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان . { لأول الحشر } قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا . قال ابن عباس : من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية ، فكان هذا أول حشر إلى الشام ، قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : اخرجوا ، قالوا إلى أين ، قال : إلى أرض المحشر ، ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام . وقال الكلبي : إنما قال : { لأول الحشر } لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه . قال مرة الهمداني : كان أول الحشر من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من الشام في أيام عمر . وقال قتادة : كان هذا أول الحشر ، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا . { ما ظننتم } أيها المؤمنون { أن يخرجوا } من المدينة لعزتهم ومنعتهم ، وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة . { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي : وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله ، { فأتاهم الله } أي أمر الله وعذابه ، { من حيث لم يحتسبوا } وهو أنه أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ، { وقذف في قلوبهم الرعب } بقتل سيدهم كعب بن الأشرف . { يخربون } قرأ أبو عمرو : بالتشديد ، والآخرون بالتخفيف ، ومعناهما واحد ، { بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } قال الزهري : وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل ، كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يستحسنونه فيحملونه على إبلهم ، ويخرب المؤمنون باقيها . قال ابن زيد : كانوا يقلعون العمد ، وينقضون السقوف ، وينقبون الجدران ، ويقلعون الخشب حتى الأوتاد ، يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضا . قال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل ، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى النبي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذلك قوله عز وجل : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا } فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم ، { يا أولي الأبصار } يا ذوي العقول والبصائر .
ومن ذلك ، نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها .
وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجلوا إلى خيبر ، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء غير هذا ، فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر ، ثم عمر رضي الله عنه ، [ أخرج بقيتهم منها ] .
{ مَا ظَنَنْتُمْ } أيها المسلمون { أَنْ يَخْرُجُوا } من ديارهم ، لحصانتها ، ومنعتها ، وعزهم فيها .
{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ } فأعجبوا بها وغرتهم ، وحسبوا أنهم لا ينالون بها ، ولا يقدر عليها أحد ، وقدر الله تعالى وراء ذلك كله ، لا تغني عنه الحصون والقلاع ، ولا تجدي فيهم القوة والدفاع .
ولهذا قال : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي : من الأمر والباب ، الذي لم{[1027]} يخطر ببالهم أن يؤتوا منه ، وهو أنه تعالى { قذف فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } وهو الخوف الشديد ، الذي هو جند الله الأكبر ، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة ، ولا قوة ولا شدة ، فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها ، واطمأنت نفوسهم إليها ، ومن وثق بغير الله فهو مخذول ، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال{[1028]} فأتاهم أمر سماوي نزل على قلوبهم ، التي هي محل الثبات والصبر ، أو الخور والضعف ، فأزال الله قوتها وشدتها ، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا ، لا حيلة لهم ولا منعة معه{[1029]} فصار ذلك عونا عليهم ، ولهذا قال : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، على أن لهم ما حملت الإبل .
فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم ، التي استحسنوها ، وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم ، فهم الذين جنوا على أنفسهم ، وصاروا من أكبر عون عليها ، { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } أي : البصائر النافذة ، والعقول الكاملة ، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع الله تعالى في المعاندين للحق ، المتبعين لأهوائهم ، الذين لم تنفعهم عزتهم ، ولا منعتهم قوتهم ، ولا حصنتهم حصونهم ، حين جاءهم أمر الله ، ووصل إليهم النكال بذنوبهم ، والعبرة بعموم اللفظ{[1030]} لا بخصوص السبب ، فإن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار ، وهو اعتبار النظير بنظيره ، وقياس الشيء على مثله ، والتفكر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة ، وبذلك يزداد{[1031]} العقل ، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان ، ويحصل الفهم الحقيقي ، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة ، وأن الله خفف عنهم .
ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة :
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة ، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون ، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية :
( ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) . .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !
( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب ) .
أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شيء ، وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة ، مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه ، والوسيلة والغاية من خلقه ؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة ، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم ، ويمكنون المؤمنين من إخرابها :
( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) . .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب ، في تلك الصورة الموحية ، وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ؛ ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة ، وعلى إيقاع هذه الحركة :
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) . .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر }أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه أو في أول حشر الناس إلى الشام ، وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك أو أن نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب ، والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر . { ما ظننتم أن يخرجوا }لشدة بأسهم ومنعتهم ، { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله }أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وتغيير النظم وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها ، واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها ، ويجوز أن تكون حصونهم فاعلا ل مانعتهم { فأتاهم الله }أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء ، وقيل الضمير ل المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وقرىء { فآتاهم الله }أي العذاب أو النصر { من حيث لم يحتسبوا }لقوة وثوقهم ، { وقذف في قلوبهم الرعب }وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها { يخربون بيوتهم بأيديهم }ضنا بها على المسلمين وإخراجا لما استحسنوا من آلاتها ، { وأيدي المؤمنين }فإنهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعا لمجال القتال ، وعطفها على أيديهم من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه ، والجملة حال أو تفسير ل الرعب وقرأ أبو عمرو { يخربون } بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير ، وقيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابا ، والتخريب الهدم { فاعتبروا يا أولي الأبصار }فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له على ما قررناه في الكتب الأصولية .
{ هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخرُجُواْ } .
يجوز أن تجعل جملة { هو الذي أخرج الذين كفروا } إلى آخرها استئنافاً ابتدائياً لقصد إجراء هذا التمجيد على اسم الجلالة لما يتضمنه من باهر تقديره ، ولِمَا يؤذن به ذلك من التعريض بوجوب شكره على ذلك الإِخراج العجيب .
ويجوز أن تجعل علة لما تضمنه الخبر عن تسبيح ما في السماوات وما في الأرض من التذكير للمؤمنين والتعريض بأهل الكتاب والمنافقين الذين هم فريقان مما في الأرض فإن القصة التي تضمنتها فاتحة السورة من أهل أحوالهما .
ويجوز أن تجعل مبينة لجملة { وهو العزيز الحكيم } [ الحشر : 1 ] لأن هذا التسخير العظيم من آثار عزّه وحكمته .
وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك وتمهيد للمقصود من السورة وهو قسمة أموال بني النضير .
وتعريف جزأي الجملة بالضمير والموصول يفيد قصر صفة إخراج الذين كفروا من ديارهم عليه تعالى وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بسعي المؤمنين في ذلك الإِخراج ومعالجتهم بعض أسبابه كتخريب ديار بني النضير .
ولذلك فَجملة { ما ظننتم أن يخرجوا } تتنزل منزلة التعليل لجملة القصر .
وجملة { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم } عطف على العلة ، أي وهم ظنوا أن المسلمين لا يغلبونهم . وإنما لم يقل : وظنوا أن لا يُخرَجوا . مع أن الكلام على خروجهم ، من قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا } فعدل عنه إلى { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم } أي مانعتهم من إخراجهم استغناء عن ذكر المظنون بذكر علة الظن . والتقدير : وظنوا أن لا يخرجوا لأنهم تمنعهم حصونهم ، أي ظنوا ظناً قوياً معتمدين على حصونهم .
والمراد ب { الذين كفروا من أهل الكتاب } بنو النضير ( بوزن أمير ) وهم قبيلة من اليهود استوطنوا بلاد العرب هم وبنو عمهم قُريظة ، ويهودُ خَيبر ، وكلهم من ذرية هَارون عليْه السلام وكان يقال لبني النضير وبني قريظة : الكاهنان لأن كل فريق منهما من ذرية هارون وهو كاهن الملة الإسرائيلية ، والكهانة : حفظ أمور الديانة بيده ويد أعقابه .
وقصة استيطانهم بلاد العرب أن موسى عليه السلام كان أرسل طائفة من أسلافهم لقتال العماليق المجاورين للشام وأرض العرب فقصَّروا في قتالهم وتوفي موسى قريباً من ذلك . فلما علموا بوفاة موسى رجعوا على أعقابهم إلى ديار إسرائيل في أريحَا فقال لهم قومهم : أنتم عصيتم أمر موسى فلا تدخلوا بلادنا ، فخرجوا إلى جزيرة العرب وأقاموا لأنفسهم قُرى حول يثرب ( المدينة ) وبنوا لأنفسهم حصُوناً وقرية سَموها الزَّهرة . وكانت حصونهم خمسة سيأتي ذكر أسمائها في آخر تفسير الآية ، وصاروا أهل زرع وأموال . وكان فيهم أهل الثراء مثل السموأل بن عَادِيا ، وكَعب بن الأشرف ، وابن أبي الحُقَيق ، وكان بينهم وبين الأوس والخزرج حِلف ومعاملة ، فكان من بطون أولئك اليهود بنو النضير وقريظة وخيبر .
ووسموا ب { الذين كفروا } لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم تسجيلاً عليهم بهذا الوصف الذميم وقد وُصفوا ب { الذين كفروا } في قوله تعالى : { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } [ البقرة : 89 ] إلى قوله : { عذاب مهين } في سورة [ البقرة : 90 ] .
وعليه فحرف من } في قوله : { من أهل الكتاب } بيانية لأن المراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود أي الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهم أهل الكتاب وأراد بهم اليهود ، فوصفوا ب { من أهل الكتاب } لئلا يظن أن المراد ب { الذين كفروا } المشركون بمكة أو بقية المشركين بالمدينة فيُظنّ أن الكلام وعيد .
وتفصيل القصة التي أشارت إليها الآية على ما ذكره جمهور أهل التفسير . أن بني النضير لما هاجر المسلمون إلى المدينة جاؤوا فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، ويقال : إن مصالحتهم كانت عقبَ وقعة بَدر لمَّا غلَب المسلمون المشركين لأنهم توسّموا أنه لا تهزم لهم راية ، فلما غُلب المسلمون يوم أُحد نكثوا عهدهم وراموا مصالحة المشركين بمكة ، إذ كانوا قد قعدوا عن نصرتهم يوم بدر ( كدأب اليهود في موالاة القوي ) فخرج كعب بن الأشرف وهو سيد بني النضير في أربعين راكباً إلى مكة فحَالفوا المشركين عند الكعبة على أن يكونوا عوناً لهم على مقاتلة المسلمين ، فلما أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمرَ محمدَ بن مسلمة أن يقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة في حصنه في قصة مذكورة في كتب السنة والسير .
وذكر ابن إسحاق سبباً آخر وهو أنه لما انقضت وقعة بئر معونة في صفر سنة أربع كان عَمرو بن أمية الضَّمْري أسيراً عند المشركين فأطلقه عامر بن الطفيل . فلما كان راجعاً إلى المدينة أقبل رجلان من بني عامر وكان لقومهما عقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلا مع عمرو بن أمية ، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يحسب أنه يثأر بهما من بني عامر الذين قتلوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر معونة ، ولما قدم عمرو بن أمية أخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما فعل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « لقد قتلت قتيلين ولآدِيَنَّهُمَا » ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين إذ كان بين بني النضير وبين بني عامر حِلف ، وأضمر بنو النضير الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلعه الله عليه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتهيّؤ لحربهم .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالسيْر إليهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة فسار إليهم هو والمسلمون وأمرهم بأن يَخرجوا من قريتهم فامتنعوا وتنادوا إلى الحرب ودسّ إليهم عبد الله بنُ أُبيّ ابنُ سلول أن لا يخرجوا من قريتهم وقال : إنْ قاتلَكم المسلمون فنحن معكم ولننصُرنَّكم وإن أخرجتم لَنَخُرجَنّ معكم فَدَرِّبُوا على الأزقة ( أي سُدُّوا منافذ بعضها لبعض ليكون كلّ درب منها صالحاً للمدافعة ) وحصِّنوها ، ووعدهم أن معه ألفين من قومه وغيرهم ، وأن معهم قريظة وحلفاءهم من غطفان من العرب فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا عبد الله بن أُبيّ ابن سلول وقريظة وغطفان أن يقدموا إليهم ليردوا عنهم جيش المسلمين فلما رأوا أنهم لم ينجدوهم قذف الله في قلوبهم الرعب فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى إلا الجلاء عن ديارهم وتشارطوا على أن يخرجوا ويَحملَ كلّ ثلاثة أبيات منهم حِمْل بعير مما شاؤوا من متاعهم ، فجعلوا يخرّبون بيوتهم ليحملوا معهم ما ينتفعون به من الخشب والأبواب .
فخرجوا فمنهم من لحق بخيبر ، وقليل منهم لحقوا ببلاد الشام في مدن ( أريحا ) وأذرعات من أرض الشام وخرج قليل منهم إلى الحِيرة .
واللام في قوله : { لأول الحشر } لام التوقيت وهي التي تدخل على أول الزمان المجعول ظرفاً لعمللٍ مثل قوله تعالى : { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } [ الفجر : 24 ] أي من وقت حياتي . وقولهم : كتب ليوم كذا . وهي بمعنى ( عند ) . فالمعنى أنه أخرجهم عند مبدأ الحشر المقدر لهم ، وهذا إيماء إلى أن الله قَدر أن يخرجوا من جميع ديارهم في بلاد العرب . وهذا التقدير أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي . فالتعريف في { الحشر } تعريف العهد .
والحشر : جمع ناس في مكان قال تعالى : { وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحّار عليم } [ الشعراء : 36 - 37 ] .
والمراد به هنا : حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها ، أي جمْعهم للخروج ، وهو بهذا المعنى يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تُجمع من متفرق ديار البلاد .
وليس المراد به : حشر يوم القيامة إذ لا مناسبة له هنا ولا يلائم ذكر لفظ « أول » لأن أول كل شيء إنما يكون متحد النوع مع ما أضيف هو إليه .
وعن الحسن : أنه حمل الآية على حشر القيامة وركّبوا على ذلك أوهاماً في أن حشر القيامة يكون بأرض الشام وقد سبق أن ابن عباس احترز من هذا حين سمى هذه السورة « سورة بني النضير » وفي جعل هذا الإِخراج وقتاً لأوّل الحشر إيذان بأن حشرهم يتعاقب حتى يكمل إخراج جميع اليهود وذلك ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم قُبيل وفاته إذ قال : « لا يبقى دينان في جزيرة العرب » وقد أنفذه عمر بن الخطاب حين أجلى اليهود من جميع بلاد العرب . وقيل : وُصف الحشر بالأول لأنه أول جلاء أصاب بني النضير ، فإن اليهود أُجْلُوا من فلسطين مرتين مرة في زمن ( بختنصر ) ومرة في زمن ( طيطس ) سلطان الروم وسَلِم بنو النضير ومن معهم من الجلاء لأنهم كانوا في بلاد العرب . فكان أول جلاء أصابهم جلاء بني النضير .
{ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله } .
أي كان ظن المسلمين وظن أهل الكتاب متواردين على تعذر إخراج بني النضير من قريتهم بسبب حصانة حصونهم .
وكان اليهود يتخذون حصوناً يأوون إليها عندما يغزوهم العدوّ مثل حصون خيبر .
وكانت لبني النضير ستة حصون أسماؤها : الكُتيبة ( بضم الكاف وفتح المثناة الفوقية ) والوَطِيح ( بفتح الواو وكسر الطاء ) والسُّلاَلم ( بضم السين ) والنَّطَاةُ ( بفتح النون وفتح الطاء بعدها ألف وبهاء تأنيث آخرَه ) والوَخْدَة ( بفتح الواو وسكون الخاء المعجمة ودال مهملة ) وشَقّ ( بفتح الشين المعجمة وتشديد القاف ) .
ونظم جملة { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم } على هذا النظم دون أن يقال : وظَنُّوا أن حصونهم مانعتُهم ليكون الابتداء بضميرهم لأنه سيعقبه إسناد { مانعتهم } إليه فيكون الابتداء بضميرهم مشيراً إلى اغترارهم بأنفسهم أنهم في عزة ومَنَعة ، وأن مَنَعة حصونهم هي من شؤون عزتهم .
وفي تقديم { مانعتهم } وهو وصف على { حصونهم } وهو اسم والاسم بحسب الظاهر أولى بأن يجعل في مرتبة المبتدأ ويجعل الوصف خبراً عنه ، فعدل عن ذلك إشارة إلى أهمية منَعة الحصون عند ظنهم فهي بمحل التقديم في استحضار ظنهم ، ولا عبرة بجواز جعل حصونهم فاعلاً باسم الفاعل وهو { مانعتهم } بناء على أنه معتمد على مسند إليه لأن محامل الكلام البليغ تجري على وجوه التصرف في دقائق المعاني فيصير الجائز مرجوحاً . قال المرزوقي في شرح ( باب النسب ) قول الشاعر وهو منسوب إلى ذي الرمة في غير ديوان الحماسة :
فإن لم يكن إلا مُعَرَّج ساعة *** قليلاً فإني نافع لي قليلها
يجوز أن يكون ( قليلها ) مبتدأ و ( نافع ) خبر مقدم عليه أي لقصد الاهتمام . والجملة في موضع خبر ( إنّ ) والتقدير : إني قليلها نافع لي .
{ فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين فاعتبروا ياأولي الألباب } .
تفريع على مجموع جملتي { ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } اللتين هما تعليل للقصر في قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } .
وتركيب ( أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) تمثيل ، مُثِّل شأنُ الله حين يسّر أسباب استسلامهم بعد أن صمموا على الدفاع وكانوا أهل عِدة وعُدة ولم يطل حصارهم بحال من أخذ حذره من عدوّه وأحكم حراسته من جهاته فأتاه عدوه من جهة لم يكن قد أقام حراسة فيها .
وهذا يشبه التمثيل الذي في قوله تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] .
والاحتساب : مبالغة في الحسبان ، أي الظنّ أي من مكان لم يظنوه لأنهم قصروا استعدادهم على التحصّن والمنَعة ولم يعلموا أن قوة الله فوق قوتهم .
والقذف : الرمي باليد بقوة . واستعير للحصول العاجل ، أي حصل الرعب في قلوبهم دفعة دون سابق تأمل ولا حصول سبب للرعب ولذلك لم يؤت بفعل القذف في آية [ آل عمران : 151 ] { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } .
والمعنى : وجعل الله الرعب في قلوبهم فأسرعوا بالاستسلام . وقَذْفُ الرعب في قلوبهم هو من أحوال إتيان الله إياهم من حيث لم يحتسبوا فتخصيصه بالذكر للتعجيب من صنع الله ، وعطفُه على أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا عطف خاص على عام للاهتمام .
و{ الرعب } : شدة الخوف والفزع . وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « نصرت بالرعب » ، أي برعب أعداء الدين .
وجملة { يخربون بيوتهم } حال من الضمير المضاف إليه { قلوبهم } لأن المضاف جزء من المضاف إليه فلا يمنع مجيء الحال منه .
والمقصود التعجيب من اختلال أمورهم فإنهم وإن خربوا بيوتهم باختيارهم لكن داعي التخريب قهري .
والإِخراب والتخريب : إسقاط البناء ونقضه . والخراب : تهدم البناء .
وقرأ الجمهور { يخربون } بسكون الخاء وتخفيف الراء المكسورة مضارع : أَخرب . وقرأه أبو عمرو وحْده بفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة مضارع : خَرَّب . وهما بمعنى واحد . قال سيبويه : إن أفعلت وفَعَّلت يتعاقبان نحْو أخربته وخَرّبته ، وأفرحته وفرّحته . يريد في أصل المعنى . وقد تقدم ما ذكر من الفرق بين : أَنزل ونَزّل في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير .
وأشارت الآية إلى ما كان من تخريب بني النضير بيوتهم ليأخذوا منها ما يصلح من أخشاب وأبواب مما يحملونه معهم ليبنوا به منازلهم في مهاجرهم ، وما كان من تخريب المؤمنين بقية تلك البيوت كلما حلّوا بقعة تركها بنو النضير .
وقوله : { بأيديهم } هو تخريبهم البيوت بأيديهم ، حقيقةٌ في الفعل وفي ما تعلق به ، وأما تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين فهو مجاز عقلي في إسناد التخريب الذي خربه المؤمنون إلى بني النضير باعتبار أنهم سبَّبوا تخريب المؤمنين لما تركه بنو النضير .
فعطف { أيدي المؤمنين } على { بأيديهم } بحيث يصير متعلّقاً بفعل { يخربون } استعمال دقيق لأن تخريب المؤمنين ديار بني النضير لمّا وجدوها خاوية تخريب حقيقي يتعلق المجرور به حقيقة .
فالمعنى : ويسببون خراب بيوتهم بأيدي المؤمنين فوقع إسناد فعل { يخربون } على الحقيقة ووقع تعلق وتعليق { وأيدي المؤمنين } به على اعتبار المجاز العقلي ، فالمجاز في التعليق الثاني .
وأما معنى التخريب فهو حقيقي بالنسبة لكلا المتعلقين فإن المعنى الحقيقي فيهما هو العبرة التي نبه عليها قوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ، أي اعتبروا بأن كان تخريب بيوتهم بفعلهم وكانت آلات التخريب من آلاتهم وآلات عدوهم .
والاعتبار : النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها . وهو افتعال من العبرة ، وهي الموعظة . وقول « القاموس » : هي العجب قصور .
وتقدم في قوله تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } في سورة [ يوسف : 111 ] .
والخطاب في قوله : { يا أولي الأبصار } موجّه إلى غير معين . ونودي أولو الأبصار بهذه الصلة ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بَصر مما شاهد ذلك ، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم ، فتكون له عبرة قدرة الله على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال . وفي انتصار الحق على الباطل وانتصار أهل اليقين على المذبذبين .
وقد احتج بهذه الآية بعض علماء الأصول لإِثبات حجّيّة القياس بناء على أنه من الاعتبار .