البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

{ من أهل الكتاب } : هم قريظة ، وكانت قبيلة عظيمة توازن في القدر والمنزلة بني النضير ، ويقال لهما الكاهنان ، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون ، نزلوا قريباً من المدينة في فتن بني إسرائيل ، انتظاراً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه .

{ من ديارهم } : يتعلق بأخرج ، و { من أهل الكتاب } يتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب .

وصحت الإضافة إليهم لأنهم كانوا ببرية لا عمران فيها ، فبنوا فيها وأنشأوا .

واللام في { لأول الحشر } تتعلق بأخرج ، وهي لام التوقيت ، كقوله : { لدلوك الشمس } والمعنى : عند أول الحشر ، والحشر : الجمع للتوجيه إلى ناحية مّا .

والجمهور : إلى أن هؤلاء الذين أخرجوا هم بنو النضير .

وقال الحسن : هم بنو قريظة ؛ ورد هذا بأن بني قريظة ما حشروا ولا أجلوا وإنما قتلوا ، وهذا الحشر هو بالنسبة لإخراج بني النضير .

وقيل الحشر هو حشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتائب لقتالهم ، وهو أول حشر منه لهم ، وأول قتال قاتلهم .

وأول يقتضي ثانياً ، فقيل : الأول حشرهم للجلاء ، والثاني حشر عمر لأهل خيبر وجلاؤهم .

وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بجلاء أهل خيبر بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يبقين دينان في جزيرة » وقال الحسن : أراد حشر القيامة ، أي هذا أوله ، والقيام من القبور آخره .

وقال عكرمة والزهري : المعنى : الأول موضع الحشر ، وهو الشام .

وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام قال لبني النضير : « اخرجوا ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر » وقيل : الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وهذا الجلاء كان في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخ ، فلا بد من القتل والسبي أو ضرب الجزية .

{ ما ظننتم أن يخرجوا } ، لعظم أمرهم ومنعتهم وقوتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم .

{ وظنوا أنهم } تمنعهم حصونهم من حرب الله وبأسه .

ولما كان ظن المؤمنين منفياً هنا ، أجري مجرى نفي الرجاء والطمع ، فتسلط على أن الناصبة للفعل ، كما يتسلط الرجاء والطمع .

ولما كان ظن اليهود قوياً جداً يكاد أن يلحق بالعلم تسلط على أن المشددة ، وهي التي يصحبها غالباً فعل التحقيق ، كعلمت وتحققت وأيقنت ، وحصونهم الوصم والميضاة والسلاليم والكثيبة .

وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه ؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم . انتهى .

يعني أن حصونهم هو المبتدأ ، ومانعتهم الخبر ، ولا يتعين هذا ، بل الراجح أن يكون حصونهم فاعلة بمانعتهم ، لأن في توجيهه تقديماً وتأخيراً ، وفي إجازة مثله من نحو : قائم زيد ، على الابتداء ، والخبر خلاف ؛ ومذهب أهل الكوفة منعه .

{ فأتاهم الله } : أي بأسه ، { من حيث لم يحتسبوا } : أي لم يكن في حسابهم ، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قاله السدي وأبو صالح وابن جريج ، وذلك مما أضعف قوتهم .

{ وقذف في قلوبهم الرعب } ، فسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ، قال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا ، وخربوا هم من داخل ونحوه .

قال الضحاك والزجاج وغيرهما : كانوا كلما خرب المسلمون من حصونهم ، هدموا هم من البيوت ، خربوا الحصن .

وقال الزهري وغيره : كانوا ، لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل ، لا يدعون خشبة حسنة ولا سارية إلا قلعوها وخربوا البيوت عنها ، فيكون قوله : { وأيدي المؤمنين } إسناد التخريب إليها من حيث كان المؤمنون محاصرتهم إياهم داعية إلى ذلك .

وقيل : شحوا على بقائها سليمة ، فخربوها إفساداً .

وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمر : ويخربون مشدّداً ؛ وباقي السبعة مخففاً ، والقراءتان بمعنى واحد عدى خرب اللازم بالتضعيف وبالهمزة .

وقال صاحب الكامل في القراءات ؛ التشديد الاختيار على التكثير .

وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ، وأخرب : ترك الموضع خراباً وذهب عنه .

{ فاعتبروا } : تفطنوا لما دبر الله من إخراجهم بتسليط المؤمنين عليهم من غير قتال .

وقيل : وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فقال : فكان كما قال .