غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

2

التفسير : قال المفسرون : صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما غلب الكفار يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له رأيه ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبين إلى مكة فعاهدوا قريشاً عند الكعبة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان أخا كعب من الرضاعة ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أحب إلينا من ذاك .

فتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فدرّبوا على الأزقة وحصنوها ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة . فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصرة المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم ، فذهبوا إلى اريحاء وأذرعات من الشأم إلا أهل بيتين منهم ابن أبي الحقيق وحُيَيّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة .

واللام في قوله { لأول الحشر } بمعنى الوقت كقولك " جئت ليوم كذا " . وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام ، فمعنى الحشر إخراج الجميع من مكان ، ومعنى الأولية أنه لم يصبهم قبل ذلك مثل هذا الذل لأنهم كانوا أهل منعة هذا قول ابن عباس والأكثرين . وقيل : هذا أول حشرهم ، وآخره حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام كما جاء في الحديث " نار تخرج من المشرق وتسوق الناس إلى المغرب " قاله قتادة . وقيل : آخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام . وقيل : معناه لأول ما حشر بقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال في الكشاف : الفرق بين النظم الذي جاء عليه وبين قول القائل " وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم " هو أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها ، وفي نصب ضميرهم اسماً لأن إسناد الجملة إليه دليل على أنهم اعتقدوا عزة أنفسهم ومنعتها بحيث لا يمكن لأحد أن يتعرض لهم ، قلت : حاصل كلامه رضي الله عنه الحصر ، ومعنى إتيان الله إتيان أمره وهو النصر إن عاد إلى اليهود وهذا أظهر ليناسب قوله تعالى :{ في قلوبهم } ولاستعمال القرآن نظيره في مواضع أخر في معرض التهديد { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله }[ البقرة :210 ] ، { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } [ الأنعام :158 ] ، ومعنى { لم يحتسبوا } أنه لم يخطر ببالهم قتل كعب غيلة على يد أخيه ، وقذف الرعب في قلوبهم وهذا من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم كما مر في آل عمران { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران :151 ] وفي لفظ القذف زيادة تأكيد ، ولهذا قالوا في صفة الأسد " مقذف " فكأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه . قال الفراء { يخربون } بالتشديد يهدمون ، وبالتخفيف يخرجون منها ويتركونها . وكان أبو عمرو يقول : الإخراب أن يترك الشيء خراباً ، والتخريب الهدم ، وبنو النضير خربوا وما أخربوا . وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الأحكام نحو " فرحته " و " أفرحته " و " حسنة الله " و " أحسنه " . قال المفسرون : إنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج . قلت : ويحتمل أن يكون بعض التخريب لسدّ أفواه الأزقة بالخشب والحجارة أو لنقل ما أرادوا حمله من جيد الخشب والساج . وأما المؤمنون فداعيهم إلى ذلك إزالة تحصنهم أو أن يتسع لهم في الحرب مجال ، ومعنى تخريبهم بأيدي المؤمنين أنهم كانوا السبب فيه وأنهم عرضوا المؤمنين لذلك . ثم أمر أهل الأبصار الباطنة بالاعتبار وهو العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ومنه العبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد ، والتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، والعبارة لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى فهم المستمع ، والسعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، أو القائس يعبر عن المقيس عليه إلى المقيس .

ومعنى الاعتبار في الآية أنهم اعتمدوا على حصونهم وعدّتهم ، فأمر الله تعالى أرباب العقول بأن ينظروا في حالهم ولا يعتمدوا على شيء غير الله ، أو المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الكفر والغدر والطعن في النبوّة فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء . واعترض بأن رب شخص وكفر وما عذب في الدنيا ، ورب ممتحن مبتلى هو نبي أو ولي . وأجيب بأن حاصل القياس والاعتبار يرجع إلى أن الغادر الكافر معذب أعم من أن يكون بالتخريب أو بالقتل أو في الدنيا أو في الآخرة والعكس لا يلزم . وقيل : معنى الاعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم أن يورثهم أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فكان كما وقع فدل على صحة نبوّته .

/خ24