فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

{ هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأوَّلِ الحشر } هم بنو النضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون ، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظاراً منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فغدروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن عاهدوه ، وصاروا عليه مع المشركين ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضوا بالجلاء . قال الكلبي : كانوا أوّل من أجلي من أهل الذمّة من جزيرة العرب ، ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب ، فكان جلاؤهم أوّل حشر من المدينة ، وآخر حشر إجلاء عمر لهم . وقيل : إن أوّل الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر ، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام ، وقيل : آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر ، وهي الشام . قال عكرمة : من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام فليقرأ هذه الآية ، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم : «اخرجوا ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر » . قال ابن العربي : الحشر أوّل وأوسط وآخر . فالأوّل إجلاء بني النضير ، والأوسط إجلاء أهل خيبر ، والآخر يوم القيامة .

وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير ، ولم يخالف في ذلك إلاّ الحسن البصري فقال : هم بنو قريظة ، وهو غلط . فإن بني قريظة ما حشروا ، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه ، فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم ، وتسبي ذراريهم ، وتغنم أموالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة » . واللام في { لأوّل الحشر } متعلقة ب { أخرج } ، وهي لام التوقيت كقوله : { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] . { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } هذا خطاب للمسلمين : أي ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم لعزتهم ومنعتهم ، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة وعقار ونخيل واسعة ، وأهل عدد وعدّة { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله } أي وظنّ بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله ، وقوله : { مَّانِعَتُهُمْ } خبر مقدّم ، و { حصونهم } مبتدأ مؤخر . والجملة خبر { أنهم } ، ويجوز أن يكون { مانعتهم } خبر { أنهم } و { حصونهم } فاعل { مانعتهم } . ورجح الثاني أبو حيان . والأوّل أولى { فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } أي أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة ، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك . وقيل : هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف قاله ابن جريج والسديّ وأبو صالح ، فإنّ قتله أضعف شوكتهم .

وقيل : إن الضمير في { أتاهم } و { لم يحتسبوا } للمؤمنين : أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا ، والأوّل أولى لقوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير . لا في قلوب المسلمين . قال أهل اللغة : الرعب : الخوف الذي يرعب الصدر : أي يملؤه ، وقذفه : إثباته فيه . وقيل : كان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، والأولى عدم تقييده بذلك وتفسيره به ، بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهر » { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل ، والمسلمون من خارج . قال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم . قال الزجاج : معنى تخريبها بأيدي المؤمنين : أنهم عرضوها لذلك . قرأ الجمهور : { يُخْرِبُونَ } بالتخفيف ، وقرأ الحسن والسلمي ونصر بن عاصم وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد . قال أبو عمرو : إنما اخترت القراءة بالتشديد ، لأن الإخراب ترك الشيء خراباً ، وإنما خربوها بالهدم . وليس ما قاله بمسلَّم ، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد . قال سيبويه : إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته . واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم . قال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير : لما صالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها . وقال الزهري أيضاً : { يخربون بيوتهم } بنقض المعاهدة و { أيدي المؤمنين } بالمقاتلة ، وقال أبو عمرو : بأيديهم في تركهم لها وب { أيدي المؤمنين } في إجلائهم عنها ، والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه ، أو في محل نصب على الحال { فاعتبروا يا أولي الأبصار } أي اتعظوا وتدبروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر . قال الواحدي : ومعنى الاعتبار : النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها .

/خ7