السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

{ هو } أي : وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب { الذي أخرج } أي : على وجه القهر { الذين كفروا } أي : ستروا ما في كتبهم من الشواهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبيّ الخاتم ، وما في فطرتهم الأولى من اتباع الحق ، { من أهل الكتاب } أي : الذي أنزله الله تعالى على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم وهم بنو النضير . وفي التعبير بكفروا إشعار بأنهم الذي أزالوا بالتبديل والإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة ، { من ديارهم } أي : مساكنهم بالمدينة عقوبة لهم ، لأنّ الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح فكان الخروج منه في غاية العسر . قال ابن اسحق : كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد ، وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان . { لأول الحشر } هو حشرهم إلى الشام ، وآخره أن جلاهم عمر في خلافته إلى خيبر . قال سمرة الهمداني : كان أوّل الحشر من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر ، وقال القرطبي : الحشر الجمع ، وهو على أربعة أضرب : حشران في الدنيا وحشران في الآخرة ، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } كانوا من سبط لم يصبهم جلاء ، وكان الله تعالى قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا ، وكان أوّل حشر في الدنيا إلى الشام ، قال ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهم : من شك أنّ المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية ، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : «اخرجوا قالوا إلى أين ، قال : إلى أرض الحشر » قال قتادة : هذا أول الحشر . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من داره .

وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة ، قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتأكل من تخلف منهم ، وهذا ثابت في الصحيح . وذكروا أنّ تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار .

وقال ابن العربي : للحشر أوّل ووسط وآخر ، فالأوّل : جلاء بني النضير ، والأوسط : جلاء خيبر ، والآخر : حشر يوم القيامة . وعن الحسن : هم بنو قريظة وخالفه بقية المفسرين ، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي ، { ما ظننتم } أيها المؤمنون { أن يخرجوا } أي : يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدّة بأسهم وقرب بني قريظة منهم وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم ، وكلهم أهل ملتهم والمنافقون من أنصارهم فخابت ظنونهم في جميع ذلك ، { وظنوا أنهم } وقوله تعالى : { ما نعتهم حصونهم } فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون حصونهم مبتدأ ، وما نعتهم خبر مقدّماً ، والجملة خبر أنهم .

الثاني : أن تكون مانعتهم خبر أنهم ، وحصونهم فاعل به نحو إنّ زيداً قائم أبوه ، وإنّ عمراً قائمة جاريته . وجعله أبو حيان أولى لأنّ في نحو قائم زيد على أن يكون خبراً مقدّماً ومبتدأ مؤخراً خلافاً ، والكوفيون يمنعونه فمحل الوفاق أولى .

وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه . قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، لا يبالي معها بأحد يتعرّض لهم أو يطمع في مغازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم ا . ه . وهذا الذي ذكره إنما يتأتى على الإعراب الأوّل ، وقد تقدّم أنه مرجوح ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه الأعظم بقوله تعالى : { من الله } أي : الملك الأعظم الذي لا عز إلا له ، { فأتاهم الله } أي : جاءهم الملك الأعظم الذي لا يحتملون مجيئه ، { من حيث لم يحتسبوا } بما صوّر لهم من حقارة أنفسهم على حبسها ، وهي خذلان المنافقين رعباً كرعبهم . وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بفتحها ، { وقذف } أي : أنزل إنزالاً كأنه قذف بحجارة فثبت { في قلوبهم الرعب } أي : الخوف الذي سكنها بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك ، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة . وقرأ في قلوبهم الرعب ، وعليهم الجلاء ، ولإخوانهم الذين حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم ، وأبو عمر وبكسرهما ، والباقون بكسر الهاء وضم الميم ، وحرّك العين بالضم ابن عامر والكسائي ، والباقون بالسكون .

ثم بين تعالى حالهم عند ذلك وفسر قذف الرعب بقوله تعالى : { يخربون بيوتهم } أي : لينقلوا ما استحسنوه منها من خشب وغيره . وقرأ أبو عمرو بفتح الخاء وتشديد الراء ، والباقون بسكون الخاء وتخفيف الراء وهما بمعنى ، لأنّ خرب عدّاه أبو عمرو بالتضعيف ، وهم بالهمزة . وعن أبي عمر وأنه فرق بمعنى آخر فقال : خرّب بالتشديد هدم ، وأفسد وأخرب بالهمزة ترك الموضع خراباً وذهب عنه ، وهو قول الفرّاء . قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجهاً ، وزعم سيبويه أنهما متعاقبان في بعض الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر ، نحو : فرحته وأفرحته .

وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة ، والباقون بكسرها ، { بأيديهم وأيدي المؤمنين } قال الزهري : وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أنّ لهم ما أقلت الإبل ، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم فيهدمونها ، وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم ، ويخرّب المؤمنون باقيها . وقال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود من داخل ليبنوا ما خرّب من حصنهم .

وقال مقاتل : إنّ المنافقين أرسلوا إليهم أن لا تخرجوا ودربوا عليهم الأزقة ، وكان المسلمون سائر الجوانب .

فإن قيل : ما معنى تخريبها لهم بأيدي المؤمنين ؟ أجيب : بأنهم لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه . وقال أبو عمرو بن العلاء : بأيديهم في تركهم لها ، وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها .

ولما كان في غاية الغرابة أن يعمل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوّه تسبب عن ذلك . قوله { فاعتبروا } أي : احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمّل في عظيم قدرة الله تعالى ، والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخدّ . وسمي علم التعبير لأنّ صاحبه ينتقل من التخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال : السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره . ولهذا قال القشيري : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها .

ثم بين أنّ الاعتبار لا يحصل إلا للكمّل بقوله تعالى : { يا أولي الأبصار } بالنظر بإبصارهم وبصائرهم في غريب هذا الصنع ، لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه وإعزاز نبيه ، ولا تعتمدوا على غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على المنافقين ، فإنّ من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته .