فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } اللام متعلقة بأخرج ، وهي لام التوقيت ، كقوله { لدلوك الشمس } ، أي عند أول الحشر ، قال الزمخشري : وهي كاللام في قوله تعالى { يا ليتني قدمت لحياتي } وقولك جئت لوقت كذا ، والمراد من أهل الكتاب هم بنو النضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هرون نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن عاهدوه وصاروا عليه مع المشركين ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى رضوا بالجلاء قال الكلبي : كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب ، ثم أجلى آخرهم في زمن عمر بن الخطاب ، وكان جلاؤهم أول حشر من المدينة ، وآخر حشر إجلاء عمر لهم .

وقيل : إن أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر ، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام ، وقيل : آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر وهي الشام ، قال عكرمة : من شك أن الحشر يوم القيامة في الشام فليقرأ هذه الآية ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال لهم : اخرجوا ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر ، وعن ابن عباس مثله ، قال ابن العربي : للحشر أول وأوسط وآخر ، فالأول إجلاء بني النضير ، والأوسط إجلاء أهل خيبر ، والآخر حشر يوم القيامة . وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير ، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري فقال : هم بنو قريظة وهو غلط ، فإن بني قريظة ما حشروا ، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه ، فحكم عليهم بأن يقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، وتغنم أموالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة .

وقد أخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ؛ عن عائشة قالت كانت غزوة بني النضير ، وهم طائفة من اليهود ، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر ، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء ، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة ، يعني السلاح ، فأنزل الله فيهم : { سبح لله } إلى قوله { لأول الحشر } ، فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الإجلاء وأجلاهم إلى الشام ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا ، وكان الله قد كتب عليهم ذلك ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي " ( {[1569]} ) ، وأما قوله { لأول الحشر } فكان إجلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام .

وعن ابن بعباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم ، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم ، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم ، وأن يسيروا إلى أذرعات الشام ، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء ، { ما ظننتم أن يخرجوا } هذا خطاب للمسلمين أي ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم لعزتهم ومنعتهم ، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة ، وعقار ونخيل واسعة ، وأهل عدد وعدة .

{ وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله ، والفرق بين هذا التركيب ، وبين النظم الذي جاء عليه ، أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلا على فرط وثوقهم بحصانتها ، ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسما لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في مغارتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم .

{ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } أي أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة ، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبقتالهم وإجلائهم ، وكانوا لا يظنون ذلك وقيل : هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف قاله ابن جريج والسدي وأبو صالح ، فإن قتله أضعف شوكتهم ، وقيل : إن الضمير في أتاهم ولم يحتسبوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا والأول أولى لقوله { وقذف في قلوبهم الرعب } فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير ، لا في قلوب المسلمين ، قال أهل اللغة : الرعب الخوف الذي يرعب الصدر ، أي يملأه ، وقذفه إثباته فيه ، قيل : وكان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، والأولى عدم تقييده بذلك وتفسيره به ، بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح " من قوله صلى الله عليه وسلم : نصرت بالرعب مسيرة شهر " .

{ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم ، فجعلوا يخربونها من داخل ، والمسلمون من خارج ، قال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم ، قال الزجاج : معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرضوها لذلك ، قرأ الجمهور يخربون بالتخفيف ، وقرئ بالتشديد ، قال أبو عمرو : وإنما اخترت القراءة بالتشديد لأن الإخراب ترك الشيء خرابا ، وإنما خربوها بالهدم ، وليس ما قاله بمسلم ، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد ، قال سيبويه : إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته ، وأفرحته وفرحته ، واختار الأولى أبو عبيد وأبو حاتم .

قال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير : لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل ، كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود ، فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ، ويخرب المؤمنون بالمقاتلة ، وقال أبو عمرو : بأيديهم في تركهم لها وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها ، والجملة مستأنفة لبيان ما فعلوه ، أو في محل نصب على الحال .

{ فاعتبروا يا أولي الأبصار } أي اتعظوا وتدبروا ، وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر ، قال الواحدي : ومعنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها ، قال النسفي : وهو دليل على جواز القياس انتهى . والاعتبار مأخوذ من العبور ، والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد ، وسمي علم التعبير لأن صاحبه ينقل من المتخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع ، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ، لأنه ينقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره ، ولهذا قال القشيري : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر .


[1569]:رواه الحاكم.