بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

ثم قال عز وجل : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ } ، يعني : يهود بني النضير ، { مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم } ، وكان بدأ أمر بني النضير ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة بعوث ، أحد البعوث مرشد بن أبي مرشد الغنوي ، وأمره على سبعة نفر إلى بعض النواحي ، فساروا حتى جاؤوا بطن الرجيع ، فنزلوا عند شجرة ، فأكلوا من تمر عجوة كانت معهم ، فسقطت نوايات بالأرض ، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار ، فكمنوا بالجبل .

فجاءت امرأة من هذيل ترعى الغنم ، فرأت النوايات التي سقطت في الأرض ، فأنكرت صفرهن فعرفت أنها تمر المدينة ، فصاحت في قومها : أنتم أتيتم . فجاؤوا يطلبونها ، فوجدوهم قد كمنوا في الجبل ، فقالوا لهم : انزلوا ولكم الأمان ، فقالوا : لا نعطي بأيدينا ، فقاتلوهم ، فقتلوا كلهم إلا عبد الله بن طارق ، فجرحوه وحسبوا أنه قد مات ، فتركوه فنجا من بينهم .

وبقي أخوهم عاصم بن ثابت بن الأفلح ، ففرغ جعبته ثم جعل يرميهم ويرتجز ، ويقاتلهم حتى فنيت سبله ؛ ثم طاعن بالرمح حتى انكسر الرمح وبقي السيف . ثم قال : اللهم إني قد حميت دينك أول النهار ، فاحم جسدي في آخره . وكانوا يجردون من قتل أصحابه ، فلما قتلوا عاصماً ، حمته الدبر وهي الذنابير ، حتى جاء السيل من الليل ، فذهب به الدبر .

وأسروا خبيب بن عدي ورجل آخر اسمه زيد بن الدثنة ، فأما خبيب فذهبوا به إلى مكة ، فاشترته امرأة ومعها أناس من قريش قتل لهم قتيل يوم بدر فلما جيء بخبيب أتي به في الشهر الحرام ، فحبس حتى انسلخ الشهر الحرام ثم خرجوا به من الحرم ليصلبوه ، فقال لهم : اتركوني أصلي ركعتين ، فصلاهما ، ثم قال : لولا خشيت أن يقولوا جزع من الموت ، لازددت . فقال : اللهم ليس هاهنا أحد أن يبلغ عني رسولك السلام ، فبلغ أنت عني السلام . ثم التفت إلى وجوههم ، وقال : اللهم أحصهم عدداً وأهلكهم بدداً يعني : متفرقين ، ولا تبقي منهم أحداً . ثم صلبوه . وأما صاحبه ، الذي أسر معه ، اشتراه صفوان بن أمية .

وأما البعث الثاني ، فإنه بعث محمد بن سلمة مع أصحابه ، فقتل أصحابه عن نحو طريق العراق ، وارتث هو من وسط القتلى فنجا .

وأما البعث الثالث ، فإن عمرو بن مالك كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث إليَّ رجالاً يعلموننا القرآن ، ويفقهوننا في الدين ، فهم في ذمتي وجواري .

فبعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر من المهاجرين والأنصار ، فساروا نحو بئر معونة . فلما ساروا ليلة من المدينة ، بلغهم أن عمرو بن مالك مات ، فكتب المنذر بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده ، فأمده صلى الله عليه وسلم بأربعة نفر منهم عمرو بن أمية الضمري ، والحارث بن الصمة ، وسعد بن أبي وقاص ، ورجل آخر ؛ فساروا حتى بلغوا بئر معونة ، وكتبوا إلى ربيعة بن عامر بن مالك : نحن في ذمتك وذمة أبيك ، أفنقدم إليك أم لا ؟ فقال : أنتم في ذمتي وجواري فأقدموا .

فخرج إليهم عامر بن الطفيل ، واستعان برعل وذكوان وعصية فخرجوا إلى المسلمين فقاتلوهم ، فقتلوا كلهم إلا عمرو بن أمية الضمري ، والحارث بن الصمة ، وسعد بن أبي وقاص ، كانوا تخلفوا . فنزلوا تحت شجرة إذ وقع على الشجرة طير ، فرمى عليهم بعلقة دم ، فعرفوا أن الطير قد شرب الدم ، فقال بعضهم لبعض : قد قتل أصحابنا . فصعدوا أعلى الجبل ، فنظروا فإذا القوم صرعى ، وقد اعتكفت عليهم الطير ، فقال الحارث بن الصمة : أنا لا أنتهي حتى أبلغ مصارع أصحابي .

فخرج إليهم فقاتل القوم ، فقتل منهم رجلين . ثم أخذوه فقالوا له : ما تحب أن نصنع بك ؟ فقال لهم : ابلغوا بي مصارع قومي . فلما بلغ مصارع أصحابه ، أرسلوه فقاتلهم ، فقتل منهم اثنين . ثم قتل فرجع عمرو بن أمية الضمري ، ورجع معه الرجلان الآخران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج رجلان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمنين ، قد كساهما وحملهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من أنتما ؟ قال : كلابيان . فقتلهما عمرو بن أمية الضمري ، وأخذ سلبهما ، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فقال : بئس ما صنعت حين قتلتهما .

فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره خبر هذه البعوث الثلاثة في ليلة واحدة ، صلى الصبح في ذلك اليوم ، وقال في الركعة الثانية : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف ، اللهم العن رعلان وذكوان وبني لحيان ، اللهم غفار ، غفر الله لها وسالم سالمها الله ، وعصية عصت الله ورسوله .

فجاء أناس من بني كلاب يلتمسون من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الكلابيين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة ، صالح بني النضير على أن لا يكونوا معه ولا عليه ؛ فاستعان النبي صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين قبائل الأنصار ؛ فلما بلغ العالية استعان من بني النضير فقال : أعينوني في عقل أصابني ، فقال : هؤلاء حلفائي . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه أبو بكر ، وعمر ، وعلي رضي الله عنهم إلى بني النضير ، فقال حيي بن أخطب : اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا .

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في صفه ، ومعه أبو بكر ، وعمر ، وعلي رضي الله عنهم فقال حيي بن أخطب لأصحابه : إنما هو في ثلاثة نفر لا ترونه أقرب من الآن ، فاقتلوه لا تروا شراً أبداً .

فنزل جبريل عليه السلام وأخبره ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يريد حاجة ، حتى دخل المدينة فجاء إنسان ، فسألوه عنه فقال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم دخل أول البيوت . فقاموا من هناك ، فقال حيي بن أخطب : عجل أبو القاسم عليه ، فقد أردنا أن نطعمه ونعطيه الذي سأله . فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، جمع الناس وجاء بالجيش ، واختلفوا في قتل كعب بن الأشرف ، فقال بعضهم لبعض : قد كان قتل قبل ذلك ، وقال بعضهم : قتل في هذا الوقت . فبعث محمد بن سلمة ، فخرج محمد بن سلمة ، وأبو نائلة ، ورجلان آخران ، فأتوه بالليل ، وقالوا : أتيناك نستقرض منك شيئاً من التمر . فخرج إليهم فقتلوه ، ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إلى بني النضير ، فقال لهم : اخرجوا منها . فإذا جاء وقت الجذاذ ، فجذوا ثماركم . فقالوا : لا نفعل .

فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، نحن نعطيك الذي سألتنا . قال : «لاَ ولكن اخْرُجُوا مِنْهَا ، وَلَكُمْ مَا حَمَلَتِ الإِبِلُ إلاّ الحَلَقَةُ » يعني : السلاح ، قالوا : لا . فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، وأمر بقطع نخيلهم ، ونقب بيوتهم . فلما رأت اليهود ما يصنعون بهم ، فكلما نقب المسلمون بيت فروا إلى بيت ، آخر ينتظرون المنافقين . وقد قال المنافقون لهم : { لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، ولإن قوتلتم لننصرنكم } . فلما رأوا أنه لا يأتيهم أحد من المنافقين ولحقهم من الشر ما لحقهم ، قال بعضهم لبعض : ليس لنا مقام بعد النخيل ، فنحن نعطيك يا أبا القاسم على أن تعتق رقابنا إلا الحلقة ونخرج ، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة .

فأخذ أموالهم ، فقسمها بين المهاجرين ، ولم يعطها أحداً من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين مثل حاجة المهاجرين ، وهما سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة ، فنزلت هذه الآية : { وَهُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم } يعني : بني النضير { لأوَّلِ الحشر } ، يعني : أول الإجلاء من المدينة . وقال عكرمة : من شك بأن الحشر هو الشام ، فليقرأ هذه الآية { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأوَّلِ الحشر } . فلما قال لهم : اخرجوا من المدينة ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر .

فقال لهم : إنهم أول من يحشر ، وأخرج من ديارهم .

ثم قال : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } ، يعني : ما ظننتم أيها المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم . وذلك أن بني النضير كان لهم عز ومنعة ، وظن الناس أنهم بعزهم ومنعتم لا يخرجون . { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ } ، يعني : وحسبوا بني النضير أنهم { مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله } يعني : أن حصونهم تمنعهم من عذاب الله . { فأتاهم الله } ، يعني : أتاهم أمر الله ، ويقال : { فأتاهم الله } بما وعد لهم . { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } ، يعني : لم يظنوا أنه ينزل بهم ، وهو قتل كعب بن الأشرف ، ويقال : خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم . { وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب } ، يعني : جعل في قلوبهم الخوف .

{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } . وذلك أنهم حصنوا أزقتهم بالدروب ، وكان المسلمون ينقبون بيوتهم ، ويدخلونها ، وكان اليهود ينقبون بيوتهم من الجانب الآخر ويخرجون منها . ويقال : كان اليهود ينقبون بيوتهم ، ليرموا بها على المسلمين ؛ وكان المسلمون يخربون نواحي بيوتهم ، ليتمكنوا من الحرب . ويقال : كان اليهود أنفقوا في بيوتهم ، فلما علموا أنهم يخرجون منها ، جعلوا يخربونها كيلا يسكنها المسلمون ؛ وكان المؤمنون يخربونها ، ليدخلوا عليهم . قرأ أبو عمرو { يُخرّبُونَ } بالتشديد . والباقون بالتخفيف . قال بعضهم : هما لغتان : خرب وأخرب . وروي عن الفراء أنه قال : من قرأ بالتشديد ، فمعناه يهدمون ؛ ومن قرأ بالتخفيف ، فمعناه يعطلون . ثم قال { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ، يعني : من له البصارة في أمر الله .