ثم قال عز وجل : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ } ، يعني : يهود بني النضير ، { مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم } ، وكان بدأ أمر بني النضير ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة بعوث ، أحد البعوث مرشد بن أبي مرشد الغنوي ، وأمره على سبعة نفر إلى بعض النواحي ، فساروا حتى جاؤوا بطن الرجيع ، فنزلوا عند شجرة ، فأكلوا من تمر عجوة كانت معهم ، فسقطت نوايات بالأرض ، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار ، فكمنوا بالجبل .
فجاءت امرأة من هذيل ترعى الغنم ، فرأت النوايات التي سقطت في الأرض ، فأنكرت صفرهن فعرفت أنها تمر المدينة ، فصاحت في قومها : أنتم أتيتم . فجاؤوا يطلبونها ، فوجدوهم قد كمنوا في الجبل ، فقالوا لهم : انزلوا ولكم الأمان ، فقالوا : لا نعطي بأيدينا ، فقاتلوهم ، فقتلوا كلهم إلا عبد الله بن طارق ، فجرحوه وحسبوا أنه قد مات ، فتركوه فنجا من بينهم .
وبقي أخوهم عاصم بن ثابت بن الأفلح ، ففرغ جعبته ثم جعل يرميهم ويرتجز ، ويقاتلهم حتى فنيت سبله ؛ ثم طاعن بالرمح حتى انكسر الرمح وبقي السيف . ثم قال : اللهم إني قد حميت دينك أول النهار ، فاحم جسدي في آخره . وكانوا يجردون من قتل أصحابه ، فلما قتلوا عاصماً ، حمته الدبر وهي الذنابير ، حتى جاء السيل من الليل ، فذهب به الدبر .
وأسروا خبيب بن عدي ورجل آخر اسمه زيد بن الدثنة ، فأما خبيب فذهبوا به إلى مكة ، فاشترته امرأة ومعها أناس من قريش قتل لهم قتيل يوم بدر فلما جيء بخبيب أتي به في الشهر الحرام ، فحبس حتى انسلخ الشهر الحرام ثم خرجوا به من الحرم ليصلبوه ، فقال لهم : اتركوني أصلي ركعتين ، فصلاهما ، ثم قال : لولا خشيت أن يقولوا جزع من الموت ، لازددت . فقال : اللهم ليس هاهنا أحد أن يبلغ عني رسولك السلام ، فبلغ أنت عني السلام . ثم التفت إلى وجوههم ، وقال : اللهم أحصهم عدداً وأهلكهم بدداً يعني : متفرقين ، ولا تبقي منهم أحداً . ثم صلبوه . وأما صاحبه ، الذي أسر معه ، اشتراه صفوان بن أمية .
وأما البعث الثاني ، فإنه بعث محمد بن سلمة مع أصحابه ، فقتل أصحابه عن نحو طريق العراق ، وارتث هو من وسط القتلى فنجا .
وأما البعث الثالث ، فإن عمرو بن مالك كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث إليَّ رجالاً يعلموننا القرآن ، ويفقهوننا في الدين ، فهم في ذمتي وجواري .
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر من المهاجرين والأنصار ، فساروا نحو بئر معونة . فلما ساروا ليلة من المدينة ، بلغهم أن عمرو بن مالك مات ، فكتب المنذر بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده ، فأمده صلى الله عليه وسلم بأربعة نفر منهم عمرو بن أمية الضمري ، والحارث بن الصمة ، وسعد بن أبي وقاص ، ورجل آخر ؛ فساروا حتى بلغوا بئر معونة ، وكتبوا إلى ربيعة بن عامر بن مالك : نحن في ذمتك وذمة أبيك ، أفنقدم إليك أم لا ؟ فقال : أنتم في ذمتي وجواري فأقدموا .
فخرج إليهم عامر بن الطفيل ، واستعان برعل وذكوان وعصية فخرجوا إلى المسلمين فقاتلوهم ، فقتلوا كلهم إلا عمرو بن أمية الضمري ، والحارث بن الصمة ، وسعد بن أبي وقاص ، كانوا تخلفوا . فنزلوا تحت شجرة إذ وقع على الشجرة طير ، فرمى عليهم بعلقة دم ، فعرفوا أن الطير قد شرب الدم ، فقال بعضهم لبعض : قد قتل أصحابنا . فصعدوا أعلى الجبل ، فنظروا فإذا القوم صرعى ، وقد اعتكفت عليهم الطير ، فقال الحارث بن الصمة : أنا لا أنتهي حتى أبلغ مصارع أصحابي .
فخرج إليهم فقاتل القوم ، فقتل منهم رجلين . ثم أخذوه فقالوا له : ما تحب أن نصنع بك ؟ فقال لهم : ابلغوا بي مصارع قومي . فلما بلغ مصارع أصحابه ، أرسلوه فقاتلهم ، فقتل منهم اثنين . ثم قتل فرجع عمرو بن أمية الضمري ، ورجع معه الرجلان الآخران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج رجلان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمنين ، قد كساهما وحملهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من أنتما ؟ قال : كلابيان . فقتلهما عمرو بن أمية الضمري ، وأخذ سلبهما ، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فقال : بئس ما صنعت حين قتلتهما .
فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره خبر هذه البعوث الثلاثة في ليلة واحدة ، صلى الصبح في ذلك اليوم ، وقال في الركعة الثانية : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف ، اللهم العن رعلان وذكوان وبني لحيان ، اللهم غفار ، غفر الله لها وسالم سالمها الله ، وعصية عصت الله ورسوله .
فجاء أناس من بني كلاب يلتمسون من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الكلابيين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة ، صالح بني النضير على أن لا يكونوا معه ولا عليه ؛ فاستعان النبي صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين قبائل الأنصار ؛ فلما بلغ العالية استعان من بني النضير فقال : أعينوني في عقل أصابني ، فقال : هؤلاء حلفائي . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه أبو بكر ، وعمر ، وعلي رضي الله عنهم إلى بني النضير ، فقال حيي بن أخطب : اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا .
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في صفه ، ومعه أبو بكر ، وعمر ، وعلي رضي الله عنهم فقال حيي بن أخطب لأصحابه : إنما هو في ثلاثة نفر لا ترونه أقرب من الآن ، فاقتلوه لا تروا شراً أبداً .
فنزل جبريل عليه السلام وأخبره ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يريد حاجة ، حتى دخل المدينة فجاء إنسان ، فسألوه عنه فقال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم دخل أول البيوت . فقاموا من هناك ، فقال حيي بن أخطب : عجل أبو القاسم عليه ، فقد أردنا أن نطعمه ونعطيه الذي سأله . فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، جمع الناس وجاء بالجيش ، واختلفوا في قتل كعب بن الأشرف ، فقال بعضهم لبعض : قد كان قتل قبل ذلك ، وقال بعضهم : قتل في هذا الوقت . فبعث محمد بن سلمة ، فخرج محمد بن سلمة ، وأبو نائلة ، ورجلان آخران ، فأتوه بالليل ، وقالوا : أتيناك نستقرض منك شيئاً من التمر . فخرج إليهم فقتلوه ، ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إلى بني النضير ، فقال لهم : اخرجوا منها . فإذا جاء وقت الجذاذ ، فجذوا ثماركم . فقالوا : لا نفعل .
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، نحن نعطيك الذي سألتنا . قال : «لاَ ولكن اخْرُجُوا مِنْهَا ، وَلَكُمْ مَا حَمَلَتِ الإِبِلُ إلاّ الحَلَقَةُ » يعني : السلاح ، قالوا : لا . فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، وأمر بقطع نخيلهم ، ونقب بيوتهم . فلما رأت اليهود ما يصنعون بهم ، فكلما نقب المسلمون بيت فروا إلى بيت ، آخر ينتظرون المنافقين . وقد قال المنافقون لهم : { لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، ولإن قوتلتم لننصرنكم } . فلما رأوا أنه لا يأتيهم أحد من المنافقين ولحقهم من الشر ما لحقهم ، قال بعضهم لبعض : ليس لنا مقام بعد النخيل ، فنحن نعطيك يا أبا القاسم على أن تعتق رقابنا إلا الحلقة ونخرج ، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة .
فأخذ أموالهم ، فقسمها بين المهاجرين ، ولم يعطها أحداً من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين مثل حاجة المهاجرين ، وهما سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة ، فنزلت هذه الآية : { وَهُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم } يعني : بني النضير { لأوَّلِ الحشر } ، يعني : أول الإجلاء من المدينة . وقال عكرمة : من شك بأن الحشر هو الشام ، فليقرأ هذه الآية { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأوَّلِ الحشر } . فلما قال لهم : اخرجوا من المدينة ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى أرض المحشر .
فقال لهم : إنهم أول من يحشر ، وأخرج من ديارهم .
ثم قال : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } ، يعني : ما ظننتم أيها المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم . وذلك أن بني النضير كان لهم عز ومنعة ، وظن الناس أنهم بعزهم ومنعتم لا يخرجون . { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ } ، يعني : وحسبوا بني النضير أنهم { مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله } يعني : أن حصونهم تمنعهم من عذاب الله . { فأتاهم الله } ، يعني : أتاهم أمر الله ، ويقال : { فأتاهم الله } بما وعد لهم . { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } ، يعني : لم يظنوا أنه ينزل بهم ، وهو قتل كعب بن الأشرف ، ويقال : خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم . { وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب } ، يعني : جعل في قلوبهم الخوف .
{ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } . وذلك أنهم حصنوا أزقتهم بالدروب ، وكان المسلمون ينقبون بيوتهم ، ويدخلونها ، وكان اليهود ينقبون بيوتهم من الجانب الآخر ويخرجون منها . ويقال : كان اليهود ينقبون بيوتهم ، ليرموا بها على المسلمين ؛ وكان المسلمون يخربون نواحي بيوتهم ، ليتمكنوا من الحرب . ويقال : كان اليهود أنفقوا في بيوتهم ، فلما علموا أنهم يخرجون منها ، جعلوا يخربونها كيلا يسكنها المسلمون ؛ وكان المؤمنون يخربونها ، ليدخلوا عليهم . قرأ أبو عمرو { يُخرّبُونَ } بالتشديد . والباقون بالتخفيف . قال بعضهم : هما لغتان : خرب وأخرب . وروي عن الفراء أنه قال : من قرأ بالتشديد ، فمعناه يهدمون ؛ ومن قرأ بالتخفيف ، فمعناه يعطلون . ثم قال { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ، يعني : من له البصارة في أمر الله .