الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

{ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ } الآيات ، قال المفسرون : نزلت هذه الآيات بأسرها في بني النضير ، وذلك " أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أّلا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ذلك ، فلمّا غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وظهر على المشركين قالت بنو النضير : والله إنّه للنبيّ الذي وجدنا نعته في التوراة : لا تردّ لهم راية . فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وهزم المسلمون ارتابوا ونافقوا وأظهروا العداوة لرسول الله ( عليه السلام ) والمؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكّة ، فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمّد ( عليه السلام ) . ثم دخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ، ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة ، فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان ، وأمر ( عليه السلام ) بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمّد بن مسلمة الأنصاري ، وكان أخاه من الرضاعة .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اطّلع منهم على خيانة ونقض عهد ، حتى أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعليّ ( رضي الله عنه ) يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أُميّة الضمري في منصرفه من بئر معونة حين أغربا إلى بني عامر ، فأجابوه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، وأجلسوه وهمّوا بالفتك به وطرح حجر عليه من فوق الحصن ، فأخبره الله سبحانه بذلك وعصمه .

وقد مضت هذه القصة وقصة مقتل كعب بن الأشرف ، فلمّا قتل كعب أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية لهم يقال لها : زهرة ، فلمّا سار إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب ، وكان سيّدهم ، فقالوا : يا محمّد ، واعية على إثر واعية ، وباكية على إثر باكية ؟ قال : " نعم " ، قالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم " اخرجوا من المدينة " ، قالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك .

فتنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال ، ودسّ المنافقون : عبد الله بن أُبّي وأصحابه إليهم أّلا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ، ولئن أُخرجتم لنخرجنّ معكم فدربوا على الأزقة وحصونها . ثم أجمعوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه : اخرج في ثلاثين رجلا من أصحابك ، وليخرج منا ثلاثون رجلا حتى نلتقي بمكان نَصَف بيننا وبينكم ، فيسمعوا منك ، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنّا كلّنا .

فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود ، حتى إذا كانوا في بَراز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلّهم يحبّ أن يموت قبله ؟ فأرسلوا إليه : كيف نفهم ونحن ستون رجلا ، اخرج في ثلاثة من أصحابك ، ونخرج لك ثلاثة من علمائنا فيسمعوا منك ، فإن آمنوا بك آمنّا كلّنا وصدّقناك .

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه ، وخرج ثلاثة من اليهود ، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله ( عليه السلام ) ، فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن يصل النبيّ صلى الله عليه وسلم فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم ( عليه السلام ) .

فلمّا كان الغد عدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فلمّا قذف الله سبحانه في قلوبهم الرعب ، وأيسوا من نصر المنافقين سألوا نبي الله ( عليه السلام ) الصلح فأبى عليهم ( إلاّ ) أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبلوا ذلك ، وصالحهم على الإجلاء ، وعلى أنّ لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم إلاّ الحلقة وهي السلاح ، وعلى أن يخلوا له ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم " .

وقال ابن عباس : صالحهم على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ما بقي .

وقال الضحاك : أعطى كلّ ثلاثة نفر بعيراً وسقاءً ، ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحا إلاّ أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فإنّهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني بني النضير { مِن دِيَارِهِمْ } التي كانت بيثرب .

قال ابن إسحاق : " كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أُحد وكان فتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان .

{ لأَوَّلِ الْحَشْرِ } قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله سبحانه قد كتب عليهم الجلاء ، ولو لا ذلك لعذّبهم في الدنيا وكانوا أول حشر في الدنيا حشروا إلى الشام .

قال ابن عباس : من شكّ أنّ المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية ؛ وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ( عليه السلام ) قال لهم يومئذ : اخرجوا " . قالوا : إلى أين ؟ فقال : " إلى أرض المحشر "

، فأنزل الله سبحانه { لأَوَّلِ الْحَشْرِ } .

وقال الكلبي : إنّما قال : { لأَوَّلِ الْحَشْرِ } ؛ لأنّهم أوّل من حشروا من أهل الكتاب ونفوا من الحجاز .

وقال مرّة الهمداني : كان هذا أوّل الحشر من المدينة ، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى بدنه .

وقال قتادة : كان هذا أوّل الحشر ، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، وتأكل منهم من تخلّف .

قال يمان بن رباب : إنّما قال : { لأَوَّلِ الْحَشْرِ } ؛ لأنّ الله سبحانه فتح على نبيّه ( عليه السلام ) في أول ما قاتلهم .

{ مَا ظَنَنتُمْ } أيّها المؤمنون { أَن يَخْرُجُواْ } من المدينة { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ } حيث درّبوها وحصّنوها { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ } أي أمر الله وعدله { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } بقتل سيّدهم كعب بن الأشرف .

{ يُخْرِبُونَ } قراءة العامّة بالتخفيف ، من الإخراب ، أي يهدمون ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وأبو عمرو بن العلاء بالتشديد ، من التخريب ،

وقال أبو عمرو : إنّما اخترت التشديد ؛ لأنّ الإخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن ، وأنّ بني النضير لم يتركوا منازلهم فيرتحلوا عنها ولكنّهم خرّبوها بالنقض والهدم .

وقال الآخرون : التخريب والإخراب بمعنى واحد . قال الزهري : ذلك أنّهم لمّا صالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ لهم ما أقلّت الإبل ، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم ممّا يستحسنونه ، أو العمود أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها منها ويحملونها على إبلهم ويخرّب المؤمنون باقيها .

وقال ابن زيد : كانوا يقتلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد يخربونها لئلاّ يسكنها المؤمنون ، حسداً منهم وبغضاً .

وقال الضحاك : جعل المسلمون كلّما هدموا شيئاً من حصونهم جعلوا هم ينقضون بيوتهم بأيديهم ويخربونها ثم يبغون ما خرب المسلمون .

وقال ابن عباس : كلّما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتّسع لهم المقاتل ، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارهم فيخرجون إلى التي بعدها يتحصنّون فيها ويكسرون ما يليهم منها ، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ، ويخربها اليهود من داخلها فذلك قوله سبحانه { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } .

{ فَاعْتَبِرُواْ } : فاتّعظوا { يأُوْلِي الأَبْصَارِ } يا ذوي العقول .