الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{هو الذي أخرج الذين كفروا} يعني يهود بني النضير {من أهل الكتاب} بعد قتال أحد أخرجهم {من ديارهم لأول الحشر} يعني القتال، والحشر الثاني للقيامة، وهو الجلاء من المدينة إلى الشام وأذرعات، {ما ظننتم} يقول للمؤمنين ما حسبتم {أن يخرجوا وظنوا} يعني وحسبوا {أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله: {هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِن دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ} الله الذي أخرج الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، وهم يهود بني النضير من ديارهم، وذلك خروجهم عن منازلهم ودورهم، حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمنهم على دمائهم ونسائهم وذراريهم، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم، ويخلو له دورهم، وسائر أموالهم، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فخرجوا من ديارهم، فمنهم من خرج إلى الشام، ومنهم من خرج إلى خيبر، فذلك قول الله عزّ وجلّ: {هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارهِمْ لأوّل الْحَشْر}... وقوله: {لأَوّلِ الْحَشْرِ} يقول تعالى ذكره: لأوّل الجمع في الدنيا، وذلك حشرهم إلى أرض الشام...

وقوله: {ما ظَنَنْتُمْ أن يخْرُجُوا}، يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ظننتم أن يخرج هؤلاء الذين أخرجهم الله من ديارهم من أهل الكتاب من مساكنهم ومنازلهم.

{وَظَنّوا أنّهُمْ ما نِعَتُهُمْ حُصُونُهمْ مِنَ اللّهِ} وإنما ظنّ القوم فيما ذكر أن عبد الله بن أُبي وجماعة من المنافقين بعثوا إليهم لما حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرونهم بالثبات في حصونهم، ويعدونهم النصر... عن يزيد بن رومان، أن رهطا من بني عوف ابن الخزرج منهم عبد الله بن أُبي ابن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنّعوا، فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وكانوا قد تحصنوا في الحصون من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل بهم.

وقوله: {فأتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} يقول تعالى ذكره: فأتاهم أمر الله من حيث لم يحتسبوا أنه يأتيهم، وذلك الأمر الذي أتاهم من الله حيث لم يحتسبوا، قذف في قلوبهم الرعب بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم في أصحابه، يقول جلّ ثناؤه: {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرّعُبَ}.

وقوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ} يعني جلّ ثناؤه بقوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} بني النضير من اليهود، وأنهم يخربون مساكنهم، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذُكر في منازلهم مما يستحسنونه، أو العمود أو الباب، فينزعون ذلك منها بأيديهم وأيدي المؤمنين... وقال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، وتخربها اليهود من داخلها...

وقال آخرون: إنما قيل ذلك كذلك، لأنهم كانوا يخربون بيوتهم ليبنوا بنقضها ما هدم المسلمون من حصونهم... عن ابن عباس، قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ فاعْتَبِرُوا يا أُولي الأبْصَارِ} قال: يعني بني النضير، جعل المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم جعلوا ينقضون بيوتهم ويخربونها، ثم يبنون ما يخرب المسلمون، فذلك هلاكهم...

وقوله: {فاعْتَبرُا يا أولي الأبصارِ} يقول تعالى ذكره: فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحلّ الله بهؤلاء اليهود الذين قذف الله في قلوبهم الرعب، وهم في حصونهم من نقمته، واعلموا أن الله وليّ من والاه، وناصر رسوله على كلّ من ناوأه، ومحلّ من نقمته به نظير الذي أحلّ ببني النضير. وإنما عنى بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: {ما ظننتم أن يخرجوا} أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن تنتصروا منهم فضلا عن أن يخرجوا من ديارهم، ولكن ذلك من لطف الله ومنته عليكم...

وقوله تعالى: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} يعني أنه قذف في قلوبهم الرعب من حيث لم يحتسب المؤمن ولا الكافر، لأن المسلمين لم يظنوا أن يقهروهم، ويغلبوهم، مع قلة عددهم وكثرة عدد أولئك. وكذا لم يحتسب الكفرة أنهم مع قوتهم وقوة حصونهم يقهرون ويغلبون، حتى من الله تعالى على المؤمنين، فإن قذف الرعب في قلوب الكفرة، ذلك لطف عظيم من الله تعالى إلى المؤمنين، والله أعلم... قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} فإنكم إذا اعتبرتم علمتم أن الله من عليكم حين أخرج الكفار من ديارهم؛ فإنه لم يكن ذلك بقوّتكم. ويحتمل أن يكون المعنى فيه {فاعتبروا يا أولي الأبصار} من أهل الكفر فإن ذلك يدلكم ويعرفكم أن اتفاقكم على النفرة على النبي صلى الله عليه وسلم لا يغنيكم كما لم يغن هؤلاء الذين خرجوا إلى مكة، واتفقوا مع المشركين، ثم لم يغنهم، والله أعلم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والحشر: جمع الناس من كل ناحية.

والحصون: جمع حصن، وهو البناء العالي المنيع.

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

["فاعتبروا يا أولي الأبصار"] يعني- والله أعلم- أن من فعل فعلهم استحق أن يناله ما نالهم أو يعفو الله، كذلك قال أهل العلم، وهو صحيح. (ت: 7/216).

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ} فلم يكن كما ظنُّوه -ومَنْ تَقَوَّ بمخلوقٍ أسْلَمَه ذلك إلى صَغَارِه ومذَلّتِه.

ومن الدلائل الناطقة ما أُلْقِي في قلوبهم من الخوفِ والرُّعب، ثم تخريبُهم بيوتهم بأيديهم علامةُ ضَعْف أحوالهم. والاعتبارُ أحَدُ قوانين الشَّرْع، ومَنْ لم يَعْتَبِرْ بغيره اعتَبَرَ به غيرُه.

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

قوله {وأيدي المؤمنين} وأضاف الإخراب بأيدي المؤمنين إليهم لأنهم عرضوا منازلهم للخراب بنقض العهد.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

معنى الاعتبار: العبور من الشيء إلى نظيره إذا شاركه في المعنى.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى: أخرج الذين كفروا عند أوّل الحشر. ومعنى أوّل الحشر: أن هذا أوّل حشرهم إلى الشأم، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، وهم أوّل من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام. أو هذا أوّل حشرهم؛ وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. وقيل: آخر حشرهم حشر يوم القيامة؛ لأنّ المحشر يكون بالشام. وعن عكرمة: من شك أنّ المحشر ههنا -يعني الشام- فليقرأ هذه الآية. وقيل: معناه أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و {الذين كفروا من أهل الكتاب} هم بنو النضير، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل، وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة، ولهم نخل وأموال عظيمة. وقوله تعالى: {لأول الحشر} اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن {الحشر}: الجمع والتوجيه إلى ناحية ما. فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: أراد حشر القيامة أي هذا أوله، والقيام من القبور آخره، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «امضوا هذا أول الحشر وإنا على الأثر». وقال عكرمة والزهري وغيرهما: المعنى {لأول} موضع {الحشر} وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلد الشام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير «اخرجوا»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر»، وقال قوم في كتاب المهدوي: المراد {الحشر} في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج، فهذا الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير أوله، والذي فعل عمر بن الخطاب بأهل خيبر آخره، وأخبرت الآية بمغيب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء أهل خيبر، ويحتمل أن يكون آخر الحشر في قول النبي عليه السلام في مرضه: «لا يبقين دينان في جزيرة العرب»، فإن ذلك يتضمن إجلاء بقاياهم.

وقوله تعالى: {ما ظننتم أن يخرجوا} معناه: لمنعتهم وكثرة عددهم، فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم، وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنوا هم أن لن يقدر عليهم.

وقوله تعالى: {فأتاهم الله} عبارة عن إظهاره تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل.

وقوله تعالى: {وأيدي المؤمنين} من حيث فعلهم، وكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم، فكأنهم قد خربوها هم بأيدي المؤمنين.

ثم نبه تعالى المؤمنين وغيرهم ممن له أن ينظر على نصرة رسوله وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} أي العيون والأفهام.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ، وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{فاعتبروا يا أولي الأبصار} ولا تعتمدوا على شيء غير الله؛ فليس للزاهد أن يعتمد على زهده، وليس للعالم أن يعتمد على علمه، بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل الله ورحمته.

المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة، فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر، والكفر في البلاء والجلاء، والمؤمنين أيضا يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي

الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي المعبر معبرا لأن به تحصل المجاوزة، وسمي العلم المخصوص بالتعبير، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ولهذا قال المفسرون: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما نزه نفسه الأقدس دل على ذلك التنزه [و] على العزة والحكمة بدليل شهودي من أنه أنفذ ما كتب من أنه يغلب هو ورسله ومن أنه كبت الذين حادوه وخيب ظن الذين نافقوا، فتولوا اليهود من أهل الكتاب ليعتزوا بهم، فأذل اليهود وطردهم من مهبط الوحي وأخزى المنافقين الذين جعلوهم محط اعتمادهم وموضع ولايتهم وودادهم، فقال: {هو} أي وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب، {الذي أخرج} على وجه القهر {الذين كفروا} أي ستروا ما في كتبهم من الشواهد التي تشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الخاتم وما في فطرهم الأولى من أن اتباع الحق أحق، وقبح عليهم كفرهم بقوله موضع "من بني النضير " أو " اليهود " مثلاً: {من أهل الكتاب} أي الذي أنزله الله على رسوله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وفي التعبير ب {كفروا} إشعار بأنهم الذين أزالوا بالتبديل أو الإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة دالاًّ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح، فكان الخروج منه في غاية العسر، دل على مزيد قهرهم به بأن قال: {من ديارهم} ولما كان منهم من جلا من المدينة الشريفة إلى خيبر، وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ولحق سائرهم بأريحا من أرض الشام أرض المحشر، ولحق بعضهم بالحيرة، لوح إلى فتح خيبر وحشرهم منها حشراً ثانياً بقوله معللاً أو موقتاً.

{لأول} أي لأجل أول أو عند أول {الحشر} وفي ذلك إشارة إلى أن كل بلد حشروا إليه سيفتح، ويزلزلون منه زلزلة أخرى، لا تزال مصائبهم بأهل الإسلام قائمة حتى يكون الحشر الأعظم بالقيامة، والحشر: الجمع من مكان والسوق إلى غيره بكره وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من شك أن المحشر بأرض الشام فليقرأ هذه الآية. انتهى، وهذا الحشر يدل على المحشر الأعظم وبينه على قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين". ولما كان قد أخبر أن حشرهم لم يكن بسبب غير محض قدرته، استأنف شرح ذلك بقوله: {ما ظننتم} أي أيها المؤمنون {أن يخرجوا} أي يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدة بأسهم وشكيمتهم وقرب بني قريظة منهم فكانوا بصدد مظاهرتهم، وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم وكلهم أهل ملتهم، والمنافقون من أنصارهم وأسرتهم، فخابت ظنونهم في جميع ذلك وفالت آراؤهم وسلط عليهم المؤمنون على قلتهم وضعفهم ولما كانت الحصون تمنع إلى إتيان الأمداد قال: {وظنوا أنهم} ودل على قوة ظنهم وثباته بالجملة الاسمية فقال: {مانعتهم حصونهم} أي ثابت لها المنع ولهم الامتناع، قالوا: وفي تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي جعل ضميرهم اسم (إن) و إسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عز ومنعة لا مطمع معها في معازّتهم، ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه وباسمه الأعظم فقال: {من الله} أي الملك الأعظم الذي لا عز إلا له وأنتم جنده، لا تقاتلون إلا فيه وبه، بأسكم من بأسه، فقد اجتمع الظنان على شيء واحد. ولما كان إسناد ما للمضاف إلى المضاف إليه شائعاً في لسان العرب وكثيراً جداً لأنه لا يلتبس على من له إلمام بكلامهم، وبليغاً جداً لما له من العظمة، قال: {فآتاهم الله} أي جاءهم الملك الأعظم الذي يحتملون مجيئه بما صور لهم من حقارة أنفسهم التي اضطرتهم إلى الجلاء، {من حيث لم يحتسبوا} أي من الجهة التي لم يحملوا أنفسهم على حسبها وهي خذلان المنافقين لهم رعباً كرعبهم واستضعافاً كاستضعاف أنفسهم عن مقاومة جند الله بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة حتى قطعوا بما مناهم وقربه لهم وأغواهم. ولما كان التقدير: فأوهنهم الله بذلك، عطف عليه قوله: {وقذف} أي أنزل إنزالاً كأنه قذفه بحجارة، فثبت وارتكز، {في قلوبهم الرعب} أي الخوف الذي سكنها فرضّها وملأها وعبر منها إلى جميع قواهم فاجتثها من أصلها، ثم بين حالهم عند ذلك أو فسر قذف الرعب بقوله: {يخربون بيوتهم} أي يبالغون -على قراءة أبي عمرو بالتشديد- في إخرابها، أي إفسادها، فإن الخربة الفساد، وقراءة غيره يفهم الفعل المطلق الذي لا ينافي المقيد {بأيديهم} ضعفاً منهم -بما أشار إليه جمع القلة، ويأساً من قوتهم ليأخذوا ما استحسنوا من آلاتها ولما كان السبب في تخريب الصحابة رضي الله عنهم لبيوتهم ما أحرقوهم به من المكر والغدر كانوا كأنهم أمروهم بذلك، فنابوا عنهم فيه، فقال أيضاً بجمع القلة للدلالة على أن الفعل له سبحانه وحده: {وأيدي المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان استيلاء وغلبة عليهم وقد كان المؤمنون يخربون ما ضيق عليهم المجال منها لأجل القتال، وقدم تخريبهم لأنه أعجب. ولما كان في غاية الغرابة أن يفعل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوه، سبب عن ذلك قوله: {فاعتبروا} أي احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمل في عظيم قدرة الله تعالى على أن تعبروا من ظواهر العلم في هذه القضية بما دبر الله في إخراجهم إلى بواطن الحكمة بأن لا تعدوا لكم ناصراً من الخلق ولا تعتمدوا على غير الله ولما كان الاعتبار عظيم النفع، لا يحصل إلا للكمل، زاده تعظيماً بقوله تعالى: {يا أولي الأبصار} بالنظر بأبصاركم وبصائركم في غريب هذا الصنع لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه و إعزاز نبيه ولا تعتمدوا على غير الله كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإن من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته، ولا تلموا بغدر كما أرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوا عليه وهو قاعد بفناء دار من دورهم رحى من السطح ليقتلوه بها- زعموا، ولا تفعلوا شيئاً من قبيح أفعالهم لئلا يحصل لكم مثل نكالهم كما أحكمه قوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " الحديث.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. والله هو فاعل كل شيء، ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها.

(فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب) أتاهم من داخل أنفسهم! لا من داخل حصونهم! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب، ففتحوا حصونهم بأيديهم! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم، ولا يحكمون قلوبهم، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم. وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم. فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها. وهكذا حين يشاء الله أمرا، يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر، وهو يعلم كل شيء، وهو على كل شيء قدير. فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة، مما يعرفه الناس ويقدرونه، فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة، والسبب والنتيجة من صنعه، والوسيلة والغاية من خلقه، ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية... وهو العزيز الحكيم.. (فاعتبروا يا أولي الأبصار).. وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه، والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا التسخير العظيم من آثار عزّه وحكمته، وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين، وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك، وتمهيد للمقصود من السورة وهو قسمة أموال بني النضير.

{لأول الحشر} فالمعنى أنه أخرجهم عند مبدأ الحشر المقدر لهم، وهذا إيماء إلى أن الله قَدر أن يخرجوا من جميع ديارهم في بلاد العرب. وهذا التقدير أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.. والحشر: جمع ناس في مكان. والمراد به هنا: حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها، أي جمْعهم للخروج، وهو بهذا المعنى يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تُجمع من متفرق ديار البلاد. وليس المراد به: حشر يوم القيامة، إذ لا مناسبة له هنا ولا يلائم ذكر لفظ « أول» لأن أول كل شيء إنما يكون متحد النوع مع ما أضيف هو إليه. وعن الحسن: أنه حمل الآية على حشر القيامة، وركّبوا على ذلك أوهاماً في أن حشر القيامة يكون بأرض الشام، وقد سبق أن ابن عباس احترز من هذا حين سمى هذه السورة « سورة بني النضير». وفي جعل هذا الإِخراج وقتاً لأوّل الحشر إيذان بأن حشرهم يتعاقب حتى يكمل إخراج جميع اليهود، وذلك ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم قُبيل وفاته إذ قال: « لا يبقى دينان في جزيرة العرب»، وقد أنفذه عمر بن الخطاب حين أجلى اليهود من جميع بلاد العرب...

ونظم جملة {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم} على هذا النظم دون أن يقال: وظَنُّوا أن حصونهم مانعتُهم ليكون الابتداء بضميرهم لأنه سيعقبه إسناد {مانعتهم} إليه فيكون الابتداء بضمير هم مشيراً إلى اغترارهم بأنفسهم أنهم في عزة ومَنَعة، وأن مَنَعة حصونهم هي من شؤون عزتهم.

وتركيب (أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) تمثيل، مُثِّل شأنُ الله حين يسّر أسباب استسلامهم بعد أن صمموا على الدفاع وكانوا أهل عِدة وعُدة ولم يطل حصارهم بحال من أخذ حذره من عدوّه وأحكم حراسته من جهاته فأتاه عدوه من جهة لم يكن قد أقام حراسة فيها.

والاحتساب: مبالغة في الحسبان، أي الظنّ أي من مكان لم يظنوه لأنهم قصروا استعدادهم على التحصّن والمنَعة ولم يعلموا أن قوة الله فوق قوتهم.

والقذف: الرمي باليد بقوة، واستعير للحصول العاجل، أي حصل الرعب في قلوبهم دفعة دون سابق تأمل ولا حصول سبب للرعب، ولذلك لم يؤت بفعل القذف في آية [آل عمران: 151] {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب}. والمعنى: وجعل الله الرعب في قلوبهم فأسرعوا بالاستسلام، وقَذْفُ الرعب في قلوبهم هو من أحوال إتيان الله إياهم من حيث لم يحتسبوا، فتخصيصه بالذكر للتعجيب من صنع الله. والمقصود التعجيب من اختلال أمورهم؛ فإنهم وإن خربوا بيوتهم باختيارهم لكن داعي التخريب قهري.

والإِخراب والتخريب: إسقاط البناء ونقضه. والخراب: تهدم البناء.

وقوله: {بأيديهم} هو تخريبهم البيوت بأيديهم، حقيقةٌ في الفعل وفي ما تعلق به، وأما تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين فهو مجاز عقلي في إسناد التخريب الذي خربه المؤمنون إلى بني النضير باعتبار أنهم سبَّبوا تخريب المؤمنين لما تركه بنو النضير. وأما معنى التخريب فهو حقيقي بالنسبة لكلا المتعلقين؛ فإن المعنى الحقيقي فيهما هو العبرة التي نبه عليها قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، أي اعتبروا بأن كان تخريب بيوتهم بفعلهم وكانت آلات التخريب من آلاتهم وآلات عدوهم.

والاعتبار: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها. وهو افتعال من العبرة، وهي الموعظة.

والخطاب في قوله: {يا أولي الأبصار} موجّه إلى غير معين. ونودي أولو الأبصار بهذه الصلة ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بَصر مما شاهد ذلك، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم، فتكون له عبرة قدرة الله على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال. وفي انتصار الحق على الباطل وانتصار أهل اليقين على المذبذبين.