قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت } أي : ينزل بكم الموت ، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } فرد الله تعالى عليهم بقوله : { أينما تكونوا يدرككم الموت } .
قوله تعالى : { ولو كنتم في بروج مشيدة } ، والبروج : الحصون والقلاع ، والمشيدة : المرفوعة المطولة ، قال قتادة : معناه في قصور محصنة ، وقال عكرمة : مجصصة ، والشيد : الجص .
قوله تعالى : { وإن تصبهم حسنة } ، نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ، ومزارعنا ، منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال الله تعالى : { وإن تصبهم } يعني : اليهود { حسنة } أي خصب ورخص في السعر .
قوله تعالى : { يقولوا هذه من عند الله } ، لنا .
قوله تعالى : { وإن تصبهم سيئة } يعني : الجدب وغلاء الأسعار .
قوله تعالى : { يقولوا هذه من عندك } أي : من شؤم محمد وأصحابه ، وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر ، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ، ( يقولوا هذه من عندك ) أي : أنت الذي حملتنا عليه يا محمد ، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين . قوله تعالى : { قل } لهم يا محمد .
قوله تعالى : { كل من عند الله } . أي : الحسنة والسيئة كلها من عند الله ، ثم عيرهم بالجهل فقال قوله تعالى : { فمال هؤلاء القوم } يعني : المنافقين واليهود قوله تعالى { لا يكادون يفقهون حديثاً } أي : لا يفقهون قولاً ، وقيل : الحديث هاهنا هو القرآن أي : لا يفهمون معاني القرآن . قوله : { فمال هؤلاء } قال الفراء : كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهموا أن اللام متصلة بها ، وأنهما حرف واحد ، ففصلوا اللام مما بعدها في بعضه ، ووصلوها في بعضه ، والاتصال القراءة ، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة .
ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر ، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئًا ، فقال : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } أي : في أي زمان وأي مكان . { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : قصور منيعة ومنازل رفيعة ، وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه ، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه ، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم ، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها
ثم قال : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا }
يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل ، المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة أي : خصب وكثرة أموال ، وتوفر أولاد وصحة ، قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وأنهم إن أصابتهم سيئة أي : جدب وفقر ، ومرض وموت أولاد وأحباب قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : بسبب ما جئتنا به يا محمد ، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله ، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ }
وقال قوم صالح : { قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ }
وقال قوم ياسين لرسلهم : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } الآية . فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم . وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم .
قال الله في جوابهم : { قُلْ كُلٌّ } أي : من الحسنة والسيئة والخير والشر . { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : بقضائه وقدره وخلقه . { فَمَا لهَؤُلَاءِ الْقَوْم } أي : الصادر منهم تلك المقالة الباطلة . { لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } أي : لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه ، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا ، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله ، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم .
وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله ، والحث على ذلك ، وعلى الأسباب المعينة على ذلك ، من الإقبال على كلامهما وتدبره ، وسلوك الطرق الموصلة إليه . فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره ، لا يخرج منها شيء عن ذلك .
وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببا لشر يحدث ، هم ولا ما جاءوا به لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين .
هنا تجيء اللمسة الأخرى . اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة ، والأجل والقدر ؛ وعلاقة هذا كله بتكليف القتال ، الذي جزعوا له هذا الجزع ، وخشوا الناس فيه هذه الخشية !
( أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة ) . .
فالموت حتم في موعده المقدر . ولا علاقة له بالحرب والسلم . ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته . ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن ؛ ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده . .
هذا أمر وذاك أمر ؛ ولا علاقة بينهما . . إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل . بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد . . وليست هنالك علاقة أخرى . . ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال . ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال !
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر ؛ وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر . .
إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبه ووقاية . . فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر . وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف . وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة . . ولكن هذا كله شيء ، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر . . إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع ، وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله . . وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب - رغم كل استعداد واحتياط - أمر آخر يجب أن يطاع ؛ وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله . .
توازن واعتدال . وإلمام بجميع الأطراف . وتناسق بين جميع الأطراف . .
هذا هو الإسلام . وهذا هو منهج التربية الإسلامي ، للأفراد والجماعات . .
وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من المهاجرين . ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي ، والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها . . هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه ، ولا فصل ، ولا وقفة تنبى ء بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى ، وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى . . ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها :
( وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا : هذه من عندك ! قل : كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟ ! ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله ، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ) . .
إن الذين يقولون هذا القول ، وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله ، وما يصيبهم من الضر إلى النبي [ ص ] يحتمل فيهم وجوه :
الوجه الأول : أنهم يتطيرون بالنبي [ ص ] فيظنونه - حاشاه - شؤما عليهم . يأتيهم السوء من قبله . فإن أجدبت السنة ، ولم تنسل الماشية ، أو إذا أصيبوا في موقعة ؛ تطيروا بالرسول [ ص ] فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله !
الوجه الثاني : أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول [ ص ] تخلصا من التكاليف التي يأمرهم بها . وقد يكون تكليف القتال منها - أو أخصها - فبدلا من أن يقولوا : إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال ، يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر ! ويقولون : إن الخير يأتيهم من الله ، وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول [ ص ] ومن أوامره . وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر !
والوجه الثالث : هو سوء التصور فعلا لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة ، وعلاقته بمشيئة الله . وطبيعة أوامر النبي [ ص ] لهم ؛ وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى . .
وهذا الوجه الثالث - إذا صح - ربما يكون قابلا لأن يوسم به ذلك الفريق من المهاجرين الذين كان سوء تصورهم لحقيقة الموت والأجل ، يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . ويقولون : ( ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) . . غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى . . تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها . وهذا الوجه الثالث منها . .
إن القضية التي تتناولها هذه الآيات ، هي جانب من قضية كبيرة . . القضية المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم " قضية القضاء والقدر " أو " الجبر والاختيار " . . وقد وردت في أثناء حكاية ذلك الفريق من الناس ؛ ثم في الرد عليهم ، وتصحيح تصورهم . والقرآن يتناولها ببساطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض . . فلنعرضها كما وردت وكما رد عليها القرآن الكريم :
وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل : كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟ . .
إن الله هو الفاعل الأول ، والفاعل الواحد ، لكل ما يقع في الكون ، وما يقع للناس ، وما يقع من الناس . فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا . ولكن تحقق الفعل - أي فعل - لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر .
فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة ، وإيقاعها بهم ، للرسول [ ص ] وهو بشر منهم مخلوق مثلهم - نسبة غير حقيقية ؛ تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع .
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير ؛ بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير . ولكن تحقق الخير فعلا يتم بإرادة الله وقدره . لأنه ليست هناك قدرة - غير قدرة الله - تنشى ء الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع . وإذن يكون تحقق الخير - بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده - عملا من أعمال القدرة الإلهية .
وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء . أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء . ولكن وقوع السوء فعلا ، ووجوده أصلا ، لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله . لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله .
{ أينما تكونوا يدرككم الموت } قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله :
من يفعل الحسنات الله يشكرها . أو على أنه كلام مبتدأ ، وأينما متصل ب{ لا تظلمون } . { ولو كنتم في بروج مشيدة } في قصور أو حصون مرتفعة ، والبروج في الأصل بيوت على أطراف القصور ، من تبرجت المرأة إذا ظهرت . وقرئ مشيدة بكسر الياء وصفا لها بوصف فاعلها كقولهم : قصيدة شاعرة ، ومشيدة من شاد القصر إذا رفعه . { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية ، وهما المراد في الآية أي : وإن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى الله سبحانه وتعالى ، وإن تصبهم بلية كقحط أضافوها إليك وقالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود : منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها . { قل كل من عند الله } أي يبسط ويقبض حسب إرادته . { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } يوعظون به ، وهو القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانية لعلموا أن الكل من عند الله سبحانه وتعالى ، أو حديثا ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثا من صروف الزمان فيتفكرون فيه فيعلمون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى .
و { أينما تكونوا يدرككم الموت } جزاء وجوابه ، وهكذا قراءة الجمهور ، وقرأ طلحة بن سليمان «يدركُكُم » بضم الكافين ورفع الفعل ، قال أبو الفتح : ذلك على تقدير دخول الفاء كأنه قال : فيدرككم الموت{[4153]} ، وهي قراءة ضعيفة ، وهذا إخبار من الله يتضمن تحقير الدنيا ، وأنه لا منجى من الفناء والتنقل . واختلف المتأولون في قوله : { في بروج } فالأكثر والأصح أنه أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية ، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة ، فمثل الله لهم بها ، قال قتادة : المعنى في قصور محصنة ، وقاله ابن جريج والجمهور ، وقال السدي : هي بروج في السماء الدنيا مبنية ، وحكى مكي هذا القول عن مالك ، وأنه قال : ألا ترى إلى قوله { والسماء ذات البروج }{[4154]} وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : { في بروج مشيدة } ، معناه في قصور من حديد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يعطيه اللفظ ، وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنة بذكر السماء بروج المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها ، وبرج معناه ظهر ، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة ، ومنه تبرج المرأة ، و { مشيدة } قال الزجّاج وغيره : معناه مرفوعة مطولة ، لأن شاد الرجل البناء إذا صنعه بالشيد وهو الجص إذا رفعه ، وقالت طائفة : { مشيدة } معناه : محسنة بالشيد ، وذلك عندهم أن «شاد الرجل » معناه : جصص بالشيد ، وشيد معناه : كرر ذلك الفعل فهي للمبالغة ، كما تقول : كسرت العود مرة ، وكسرته في مواضع منه كثيرة مراراً ، وخرقت الثوب وخرقته ، إذا كان الخرق منه في مواضع كثيرة ، فعلى هذا يصح أن تقول : شاد الرجل الجدار مرة وشيد الرجل الجدار إذا أردت المبالغة ، لأن التشييد منه وقع في مواضع كثيرة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [ عدي بن زياد العبادي ] : [ الخفيف ]
شَادَهُ مَرْمَراً وَجَلَّلَهُ كِلْ . . . ساً فللطيرِ في ذُراهُ وكورُ{[4155]}
والهاء والميم في قوله : { وإن تصبهم } رد على الذين قيل لهم ، كفوا أيديكم وهذا يدل على أنهم المنافقون ، لأن المؤمنين لا تليق بهم هذه المقالة ، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي عليه السلام تحت أمر ، فتصيبهم بسببه أسواء ، ومعنى الآية ، وإن تصب هؤلاء المنافقين حسنة من هزم عدو أو غنيمة أو غير ذلك رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع الله ، لا أنه ببركة إتباعك والإيمان بك ، { وإن تصبهم سيئة } ، أي هزيمة أو شدة جوع وغير ذلك ، قالوا : هذه بسببك ، لسوء تدبيرك ، كذا قال ابن زيد ، وقيل لشؤمك علينا .
قاله الزجّاج وغيره ، وقوله : { قل كل من عند الله } إعلام من الله تعالى ، أن الخير والشر ، والحسنة والسيئة خلق له ومن عنده ، لا رب غيره ولا خالق ولا مخترع سواه ، فالمعنى : قل يا محمد لهؤلاء : ليس الأمر كما زعمتم من عندي ولا من عند غيري ، بل هو كله من عند الله ، قال قتادة : النعم والمصائب من عند الله ، قال ابن زيد ، النصر والهزيمة ، قال ابن عباس : السيئة والحسنة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله شيء واحد ، ثم وبخهم بالاستفهام عن علة جهلهم ، وقلة فهمهم وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق والفقه في اللغة الفهم ، وأوقفته الشريعة على الفهم في الدين وأموره ، وغلب عليه بعد الاستعمال في علم المسائل الإحكامية ، والبلاغة في الاستفهام عن قلة فقههم بينة ، لأنك إذا استفهمت عن علة أمر ما ، فقد تضمن كلامك إيجاب ذلك الأمر تضمناً لطيفاً بليغاً ، ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله { فما } ووقف الباقون على اللام في قوله : { فمال } ، إتباعا للخط ، ومنعه قوم جملة ، لأنه حرف جر فهي بعض المجرور ، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس ، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا .